القبيلة والدولة في موريتانيا وجدلية الصراع بقلم د. محمد الراظي بن صدفن

 

لا يمكن تقديم تعريف شامل متفق عليه من الباحثين لظاهرة القبيلة نظرًا لتشعب الميكانيزمات التي تحكمها واختلاف نوعية التماسك بين مكوناتها.
وعمومًا، يمكن القول إن القبيلة هي “مجموعة لها مجال ترابي تعتبره ملكًا جماعيًا لها وتستغل موارده بناءً على الانتماء المشترك في الأصل لأفرادها الذين يتضامنون في الدفاع عن ذلك المجال”.

ويستند التنظيم القبلي عمومًا إلى العصبية التي وصفها ابن خلدون بأنها الوحدة الأساسية لأي كيان اجتماعي يذوب الفرد فيه، مشيرًا إلى أن غايتها الطبيعية هي الوصول إلى الملك الذي هو أساس العمران. وبغض النظر عن هذه الأطروحات ومآلاتها الفكرية والفلسفية، فإن الدولة تظل بحاجة إلى عصبية أعم وأشمل من العصبية الخلدونية، لأن مفهوم المواطنة الذي نؤمن به اليوم يعمل على تكوين عصبية ذات صبغة شمولية من مختلف الأجناس والأعراق.

وفي هذا السياق، فإنه لا يمكن أن ننكر الدور البارز للقبيلة من منظور مساهمتها في التضامن الاجتماعي عبر التسهيلات التي تقدمها لمنتسبيها في حالة تعرضهم لظروف حياتية غير مواتية وتقديمهم المساعدة اللازمة. ولذلك فإن الاعتزاز بالقبيلة ظل واضحًا في تصورات الأفراد والجماعات، وهي اليوم حاضرة بقوة في المشهد العام كنظام رمزي محدد وموجّه للقيم والتصورات والممارسات رغم تلاشيها كمؤسسة تنظيمية.
فهل تنجح السياسات الحكومية في ظل الرؤية الإصلاحية لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في حسم استبدال الأساس العرقي والقبلي بخيار الولاء للدولة ومؤسساتها؟ وكيف يمكن الانتقال من سجل القبيلة إلى محورية الدولة؟

إذن قبل تناول هذه الإشكاليات الجوهرية بمزيد من التحليل، لابد من التذكير بأن الإدارة الاستعمارية في سعيها لتقويض النظام القبلي عملت على تفكيك علاقات التبعية، وأضعفت إلى حد كبير من سلطة رئيس القبيلة، وقسمت هذه الأخيرة إلى أفخاذ (fractions) ومجموعات عشائرية (sous-fractions)، وحصرت المهام الموكلة إلى رؤساء القبائل والأفخاذ والمجموعات العشائرية في تنفيذ أوامر سلطات الاستعمار والحفاظ على السكينة والأمن العام.
كما طبقت سياسة انتقائية لاختيار أعوانها من الزعامات التقليدية من خلال تنصيبها لجماعات أعيان القبائل التي أسندت إليها هذه المهمة. ومع كل ذلك فقد اتسمت العلاقة بين القبيلة ودولة الاستعمار بالكثير من المد والجزر، حيث كانت تناصبها العداء وتخضعها لقانون السيبة أحيانًا، وتوظفها أحيانًا أخرى لتحقيق مآربها السياسية.

لقد أدت هذه المعيارية في التعامل مع الكيانات القبلية والتعاطي مع شؤونها العامة المنتهجة من طرف المستعمر وأعوانه إلى نظرة سلبية عدائية لمفهوم الدولة وما يتعلق بها، تحولت للأسف إلى موقف ثابت في العقلية الجماعية لأغلب الموريتانيين حتى بعد رحيل الاستعمار عن البلاد وحصولها على استقلالها الوطني.

وقد تميزت هذه المرحلة الحاسمة من تأسيس الدولة الوطنية بالتركيز على ترسيخ مفهوم الدولة الجامعة على حساب الولاءات والانتماءات القبلية والفئوية الضيقة، وإرساء دعائم دولة القانون وتقوية أجهزة الدولة المركزية.
وعلى الرغم من تنامي الوعي الشعبي وقناعة الجميع خلال بداية الستينات بأهمية تحقيق الولاء للدولة الوليدة، فإن ذلك لم يمنع من انتشار القبلية التي كانت حاضرة في الخطاب السياسي عبر المطالبات المتكررة للزعامات التقليدية بالتمثيل السياسي على أساس القبيلة، والتركيز على وضع أشخاص بعينهم في دوائر القرار السياسي دون مراعاة للكفاءة والخبرة.

لقد أثرت هذه الوضعية، التي استمرت مع الأنظمة المتعاقبة، سلبًا على تجذير الوعي بالديموقراطية التعددية التي هي الحل الوحيد الضامن للحقوق السياسية في الدولة المدنية، لأن التصويت في الانتخابات يكون في الغالب الأعم لفائدة ولد القبيلة أو ابن الشريحة أو أبناء العمومة، وليس لبرنامج الحزب أو خطه الإيديولوجي، وهو ما يجعل الممارسة السياسية غير متحررة من ظلال القبيلة.

ومن أجل تجاوز هذه الإشكالات اليوم بعد مرور ما يزيد على ستة عقود على استقلال البلاد، وانقضاء سنة كاملة من المأمورية الثانية لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي يعلق عليه الموريتانيون آمالًا جسيمة في استرجاع هيبة الدولة والمحافظة على مقدراتها وصون كرامة مواطنيها والتحسين من أحوالهم، فإننا نرى أنه من الضروري التركيز على ما يلي:
• التأكيد على قوة الدولة الجامعة التي تحمي الجميع وتمارس سلطة الردع على كل من تسوّل له نفسه التطاول على الرموز السيادية والمسّ بالثوابت الوطنية،
• العمل على تغيير عقليات المواطنين بضرورة حثّهم على الوعي بدولة المواطنة التي تضمن تنمية البلد اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا،
• تطوير أساليب العمل الديموقراطي وصون الحريات الفردية والجماعية وإخضاع الجميع لقوانين المساواة والعدالة الاجتماعية،
• إشغال المجتمع بالتنمية والعلم باعتبارهما أفضل الحلول التي تزيد من قوة الدولة، لأن الفرد عندما يصبح أكثر قابلية للإنتاج فسوف يدرك تمامًا أن الحاجة إلى الدولة هي التي تعطيه فرص حياة أفضل، وأن قوتها هي انعكاس لقوة سلطاتها،
• تدعيم الفصل بين السلطات والضرب بيد من حديد على الفساد مهما كان مصدره، وتعزيز نزاهة واستقلالية وفعالية الجهاز القضائي،
• جعل الوظائف الإدارية والفنية بالدولة خارج المحاصصة السياسية مراعاة لمتطلبات التنمية الوطنية الشاملة وإسنادها لأصحاب الخبرات والتجربة التراكمية في المجالات المطلوبة

الخلاصة:
إنه من أجل الانتصار لدولة المواطنة المرتكزة على الديموقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات، وسعيًا للتجاوب مع توجيهات رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني التي أعلنها من مقاطعة أظهر والقاضية بالحظر التام على موظفي ووكلاء الدولة الانخراط في استخدامات للقبيلة والشريحة والجهة مخالفة لمبادئ الدولة الوطنية، فإنه يكون لزامًا علينا أن نساهم كلٌّ من موقعه مساهمة فعالة من أجل الحد من الآثار السلبية للقبلية والجهوية والطائفية والفئوية التي تقف عائقًا أمام تقدم الدولة الموريتانية الحديثة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية، في وقت يحدونا فيه الأمل أن هذه الأمراض التي تولدت من سياقاتها التاريخية ربما تنتج يومًا — بصفة تدريجية — علاجاتها الذاتية كما ألمح إلى ذلك سيادة الرئيس في خطابه أمام سكان أنبيكت لحواش.

مقالات ذات صلة