كتب الرئيس محمد جميل منصور: مرافعة ومصارحة..
منذ أسبوع نشر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني رسالة يعلن فيها تقدمه من جديد لنيل ثقة الموريتانيين في الانتخابات الرئاسية القادمة، وعلقت عليها في تدوينة مختصرة مباشرة بعد تداولها، وكنت بذلك مكتفيا، ولكن كتابات البعض، وتساؤلات البعض، وانتقادات البعض، وتزكيات البعض – غير القليلة – دفعتني كلها إلى العودة للموضوع على شكل مرافعة تعبر عني وتترجم نظرتي للأمور في هذه المرحلة المهمة من تاريخ البلد وهو يستعد لإنتخابات رئاسية لها ماقبلها ولها مابعدها، ومصارحة يقتضيها المقام ولايناسب مع البعض غيرها.
غني عن القول أنني لا أفضل الإطلاقات وأحب التنسيب والتقييد والاستدراك، وسبق أن استحضرت ذلك مرات أثناء حديثي في عدة مواضيع سابقة، بل وأرى أن هذه الاعتبارات شرط في الموضوعية والتوازن، وأن الإطلاق بالحكم الإيجابي والمزكي لاينسجم مع الصعوبات الموضوعية ولا جوانب التقصير خصوصا في أداء هذا الطرف أو ذاك من الفريق الحاكم، وأن الإطلاق بالحكم السلبي والمنتقد في كل حال لايستساغ مع الخطوات المشهودة التي شهدتها مجالات عدة التي لولا ظروف معروفة وإكراهات مفهومة، لكانت أوسع مجالا وأعمق أثرا.
وقفة أولى لازمة، تنتمي إلى مجال التفهم والموضوعية، ألا وهي الظروف التي استلم فيها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الحكم والتي جعلت الأمور ليست بتلك السهولة، ولعلها أربعا:
الأولى: ميراث في الحكم، يشهد الجميع على صعوباته وفساده وحجم انهيار الإدارة وتضييع الشأن العام فيه، ولعل التصريح المشهور لأول وزير أول في هذا العهد عن الحالة المالية مجرد مثال على الوضع حينها، بل سمعت ممن أثق فيه اطلاعا وإخبارا أن توقع الرئيس السابق أن كل شيء سينهار في ستة أشهر من تركه للحكم، كان في محله بحكم حال الدولة.
الثانية: حجم الآمال التي يعلقها أغلب الناس على العهد الجديد والتي أسس لها خطاب الترشح 2019 الجامع في أبعاده الطموح في تعهداته.
الثالثة: الأوضاع الصحية الناتجة عن جائحة كورونا، التي غطت على نصف المأمورية تقريبا وأثرت على جزء من نصفها الآخر، ومعروف أن تلك الجائحة أثرت على دول أقوى، وغيرت أولويات دول أغنى.
الرابعة: الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيراتها على الدول التي تستورد الطاقة والغذاء، وقد استأثرت تداعيات هذه الحرب ببعض التأثير في المرحلة الأخيرة من المأمورية.
في هذا الحديث شيء من التبرير، وما أنا بالمنكر لذلك، ولكنه تبرير ينطلق من حقائق ووقائع ينتمي تجاهلها إلى فضاء التحامل وعدم الموضوعية.
بين الأعمق والأظهر:
الآن سأعطي لنفسي الحق في الحديث عن إنجازات الرئيس، ولا أغمط حق جزء من فريقه في تلك الإنجازات، كما يتحمل جزء آخر من هذا الفريق ما يمكن اعتباره إخفاقات أوتأخرات.
لاشك أن جو التهدئة السياسية وتخفيف التوتر في العلاقات بين شركاء الوطن، إنجاز يحسب لرئيس الجمهورية وأن الدور الأكبر فيه كان له دون أن نتجاهل دور فرقاء مهمين في الساحة السياسية في ذلك، ولايدرك قيمة هذه التهدئة إلا من عاش الحدية السابقة لها، والتوتر في علاقة الفرقاء الذي طبع أغلب مراحل المسار الديمقراطي، صحيح أن بعض الحيوية والتدافع غاب أوخف، ولكن مسؤولية ذلك تتجه إلى القوى السياسية بالدرجة الأولى.
إنجاز آخر هو جعل القضية الوطنية بأبعادها العرقية والفئوية والحقوقية جزء من النقاش العمومي، بل إن رئيس الجمهورية في خطاب “ودان” وفي إعلان “جول” وفي سابقة في البلاد وعلى لسان المسؤول الأول في الدولة تناول الموضوع بصراحة غير معهودة، استحضرت الروح الإسلامية المحققة للمساواة وبنفس تقدمي لايختلف عليه اثنان، سيقول البعض إن مضامين “ودان” ومعاني”جول” لم تترجم على أرض الواقع، وهو في بعض ذلك محق، ولاتفسير لذلك إلا بأن بعض الفريق ممن له بعض الصلة بمجال تنزيل تلك المضامين والمعاني غير راض عنها أوغير متحمس لها على الأقل.
إن العمل الكبير الذي تقوم به “تآزر” ليعد من الإنجازات الاجتماعية الكبيرة التي استفاد ويستفيد منها قطاع واسع من المستضعفين والمهمشين وضحايا الاسترقاق وضحايا مخلفاته، وحتى الآن شملت تدخلات هذه المندوبية المتصلة مباشرة برئاسة الجمهورية والتي شهدت تحسنا وتطورا ملحوظين مع المندوب الحالي، شملت الدعم المباشر، والمشاريع، والمجمعات السكنية، والمؤسسات التعليمية، والخدمات المختلفة.
التأمين الصحي مجال آخر من مجالات التميز سواء في اتساع دائرته واستفادة المجتمع الهش منه، وأخطاء التطبيق وتأخر الإجراءات لاتؤثر على حجم الإنجاز.
في هذه الفترات وقعت زيادات وتشجيعات استفاد منها عمال التعليم والصحة ومنتسبو القوات المسلحة والمتقاعدون وآخرون، كان الناس ولهم الحق في ذلك يريدون زيادات أكثر وتشجيعات أهم، والأمل منعقد في ذلك على المأمورية الثانية للرئيس إن أذن الله وتحقق الفوز المنتظر.
المدرسة الجمهورية، إنجاز آخر، على الأقل في بعدين كبيرين منه، أما الأول فالقانون التوجيهي للتعليم الذي استطاع هندسة مقاربة موفقة جمعت بين الأصالة والانفتاح، وكرست اللغة العربية لغة رئيسية في التعليم، وفتحت آفاقا جدية لتطوير اللغات الوطنية الأخرى البولارية والسنونكية والولفية وتدريسها في أفق التدريس بها، وحافظت على الانفتاح على اللغات الأجنبية وخصوصا الفرنسية والإنجليزية… مع وضع تفضيلي انتقالي للفرنسية وهو أمر مفهوم سياقا وإمكانا، وقد بدأ تطبيق هذا القانون التوجيهي ولاتبدو النتائج المتحققة سببا للتشاؤم أوالتردد، والبعد الثاني في بناء عدد كبير من المدارس في عدد كبير من المناطق الحضرية والريفية وبنفس المواصفات، مع اكتتاب عدد كبير من المدرسين.
هناك عمل كبير في مجال الأمن الغذائي والشؤون الاجتماعية ونقاط المياه والسدود، لاينتبه له إلا من اهتم وتابع، أوكان من المسفيدين وهم كثير.
ثمة إصلاحات إدارية ومؤسسية وفي مجال الحكامة، كان سبب عدم التركيز عليها، حجم المطلوب والمأمول في هذه القطاعات.
ينسى كثيرون أن منشآت مهمة مثل مقر البرلمان ومقر المجلس الدستوري وعمارتي الوزارات الكبيرتين ومقرات لجهات حكومية أوجهوية أوبلدية، وعشرات الكلومترات المعبدة داخل بعض المدن، وإكمال بعض الطرق الرابطة بين بعض المدن والبلديات، قد تحقق في هذه الفترة، أعرف أن قصة الجسور أثرت على الصورة، وأن التأخر الكبير في جسر تيارت – دار النعيم ثم تغيير المتعهد في هذا الجسر أسهم في ذلك، ولكن اكتمال العمل في جسر”باماكو” وتقدمه في جسر”مدريد” وحتى في جسر “تيارت” عدل من الصورة وأعاد الأمور إلى بعض نصابها
تبقى الإنجازات الأمنية والدبلوماسيةوتحسن صورة البلد في الخارج من الأمور التي لايكثر حولها الخلاف، ولاتشوش عليها الحصافة والحذر في التعاطي مع الإشكالات على حدودنا شرقا وشمالا.
ولعل صعود بلادنا في تصنيف حرية الصحافة (المرتبة 33)، وتصدرها لإفريقيا والعالم العربي حسب “مراسلون بلا حدود) جاء ليؤكد وضعية صورتنا والنظرة إلينا خارجيا.
سيلحظ من حباه الله بشيء من الموضوعية والتأني أن أغلب إنجازات هذه الفترة عميقة وذات أثر، أكثر من كونها مرئية في أمور كبيرة تتوقف عندها العين أكثر مما يحس لها من أثر خصوصا في حياة الناس المعيشية.
يبقى موضوع الأسعار والارتفاعات التي شهدتها مستعصيا ومؤثرا تأثيرا سلبيا ملحوظا، لم تنجح التدخلات الاجتماعية -على أهميتها- ولا استحضار مسؤولية الموردين والأوضاع في بلدان التصدير في الارتفاعات الواقعة، في الحد من الإحساس به ولعل ذلك كان حاضرا في رسالة ترشح الرئيس، كما حضر العزم على معالجته، وكانت أهم الإشارات في ذلك الصدد اعتبار أنه لا معنى لتنمية اقتصادية عامة، دون الاهتمام بالفقراء والمحتاجين والمستضعفين وضحايا معاناة الحياة اليومية، وربما أتوقع خطوات في هذا الصدد أوالتهيئة لها خلال الفترة القليلة المتبقية من المأمورية.
كان الرئيس في رسالة ترشحه مدركا لموضوع الشباب وأزمة البطالة مما جعله يصرح بأن الهدف المركزي لكل محاور البرنامج الانتخابي له سيكون “ترقية الشباب ومحاربة البطالة” والذي يتحدث هنا هو مرشح أدار البلاد خمس سنوات، ويعرف مايمكن فعلا لاتقديرا، ويقينا لاظنا أوشكا.
محاربة الفساد كانت حاضرة في خطاب الرئيس وبعض خرجاته الإعلامية، ونتذكر جميعا مقولته أن ما عند الموريتانيين من الخيرات ليس بتلك الكثرة، وهم في أمس الحاجة إليه، ومهمتنا حماية هذه الخيرات من الفساد والمفسدين، وتابعنا جميعا مقابلة الرئيس مع ثلاث مؤسسات إعلامية وطنية مستقلة، ونتذكر كيف شرح بالتفصيل مسترجعات الدولة من عمليات التفتيش ومحاربة الاختلاس، وكيف أوضح أنهم يلتزمون الإجراءات ويتجنبون الإعلانات في هذا الموضوع.
مع هذا بقي الرأي العام أوقطاع معتبر منه مستغربا ضعف الحرب على الفساد، بل واستمرار مسلكيات فساد، والثقة في بعض من يشار إليهم – حقا أوباطلا- في ملفات فساد، ولعل ذلك كان من أسباب الخلاصة التي ضمنها الرئيس في رسالة ترشحه بلغة تجمع بين الوضوح والقوة: “كما سنضرب بيد من حديد، ونواجه بكل قوة وصرامة، كافة مسلكيات وممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام”
ليست محاربة الفساد بالسهولة التي يظن البعض، والفورية في كل حالاتها وملفاتها ليست لازمة، والحرص على نجاحها قد يبرر بعض البطء فيها، ومعروف في الأعراف الديمقراطية أن المأمورية الأخيرة لأي رئيس تناسب الخطوات التي تحتاج “بيد من حديد” و “قوة وصرامة” و”كافة” وتعم “المسلكيات والممارسات” وتستعمل المصطلحات الثلاثة “الفساد والرشوة والتعدي على المال العام” فحق لنا أن نبشر وننتظر ونذكر.
يبقى موضوع مهم لايناسب أن أختم حديث المرافعة والمصارحة قبل التوقف عنده، ألا وهو فريق الرئيس ومعاونو الرئيس والعاملون مع الرئيس.
ذات مرة في جلسة مع رئيس الجمهورية،قلت له إنني كتبت مقالا تجرأت فيه عليه وصفا ومنهج حكم، وذلك مع بداية استلامه الرئاسة، قلت في هذا المقال-التدوينة: إنه ليس استمرارا لسلفه وليس ثورة عليه، ليس استمرارا له للاختلاف الظاهر بينهما وليس ثورة عليه لأنه جاء إلى السلطة بهذه الكتلة السياسية والبشرية التي كانت مع سلفه، وأتذكر أنه استحسن الوصف تصريحا أوتلميحا.
أدرك وأنا أقول هذا الكلام أنه ليس من السهل التخلص ممن حولك هكذا وأن الانطباعات عن كثير من المعاونين لاتكفي للحكم عليهم بفساد أوعجز وتقصير، وأدرك مع ذلك أيضا أن قطاعات من الناس تتطلع إلى وجوه وفريق ينسجم مع التوجهات الإصلاحية والآمال التي فتحت لهم، كما أدرك أن الدماء التي ضخت في الدولة خلال هذه السنوات كانت محدودة بالمقارنة مع الدماء المجدد لها، وأكاد أجزم بالنظر للمؤشرات والسياقات أن حركة التغيير والتجديد في الأطقم والمحيطين ستشهد حركية أكثر وملامسة أوضح لتطلعات المواطنين والمتطلعين إلى الإصلاح.
لايبدو لي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وأنا أختم هذه المرافعة والمصارحة، إلا مستحقا علينا تكليفا ثانيا بقيادة البلاد، فقد عرفنا ما يريده منذ إعلان ترشحه 2019 وبرنامجه “تعهداتي”، وعرفنا ما يجزم أنه قادر عليه بعد تجربة خمس سنوات خبر فيها الدولة وقطاعاتها وإمكاناتها والفرص أمامها، من خلال رسالة ترشحه للرئاسة ليلة 25 ابريل 2024.
قيادة البلدان ليست سهلة، والتحكم في السفينة في بحر من التحديات الوطنية والمشاكل الإقليمية والدولية لايحسنه كل أحد.
وإذا اجتمعت الإرادة والتجربة والحصافة والتأني مع ظروف تسمح بالإقدام على الخطوات الكبرى، لن نكون معذورين في التردد في منح مأمورية أخرى للرئيس والأخ محمد ولد الشيخ الغزواني.