المراقي منهاج علم و عمل…./ بقلم د. محمد الراظي بن صدفن
عرفت المحظرة الشنقيطية خلال القرن الثالث عشر هجري (13ه) تطورًا كبيرًا على مستوى مناهجها التربوية و مقرراتها الدراسية بعد صدور مؤلف ” مراقي السعود” لصاحبه العلامة الفقية سيدي عبدالله ولد الحاج ابراهيم المتوفى « 1233ه » .
و يعتبر “مراقي السعود” الذي أراد له مؤلفه أن يكون وسيلة محكمة لمبتغي الرقي و الصعود، من الطلاب والعلماء في بلاد شنقيط.من أجود المتون في أصول الفقه و أغزرها مادة، وقد قيض الله له من القبول واهتمام الناس به ما جعله يحتل الصدارة في المقررات الدراسية المحظرية، فشاع صيته وذاع في وسط البلاد و شمالها وجنوبها و غربها.
نظم سيدي عبد الله في المراقي كتاب جمع الجوامع للعلامة السبكي، وزاد عليه زيادات كثيرة يحتاجها الناس لتسيير شؤونهم ، فبلغ النظم ألف بيت وبيت ، وشرحه رحمه الله في كتابه : (نشر البنود على مراقي السعود).
وبالإضافة إلى انتشاره في موريتانيا فقد اعتبر هذا التأليف من التصانيف الموريتانية النادرة التي تداولها الناس في الخارج درسا وتدريسا، فمنذ مطلع القرن 13 هجري أصبح مقررا دراسيًا في العلوم الشرعية ببلاد السوس و جنوب المغرب الأقصى وانتشر إلى يوم الناس هذا في معظم المعاهد و الجامعات في المغرب و المشرق الإسلاميين.
وعلى ما يبدو ، فإن من أهم العوامل التي تقف وراء إنجاز هذا التأليف حسب المؤلف هو رغبته الجامحة في إبراز أصول مذهب مالك لأرجحيته عنده و لأنه هو المذهب المعتمد في الغرب الإسلامي، وقد عبر عن ذلك بقوله:
هذا وحين قد رأيت المذهبا
رجحانه له الكثير ذهبا
وما سواه مثل عنقا مغرب
في كل قطر من نواحي المغرب
أردت أن أجمع من أصوله
ما فيه بغية لذي فصوله
وقد تناول الشيخ سيدي عبدالله ضمن كتاب المراقي موضوع أصول الفقه مبينًا أقسام الحكم الشرعي التكليفي و الوضعي وغاص في مباحث شتى شملت القرآن والسنة و مسائل الاستدلال و القياس والإجماع و الاجتهاد وغيرها…..
و بالرغم من أن هذا الكتاب جاء في إطار مشروع علمي لسد فراغ معرفي متعلق بعلم الأصول و إدماجه في المنظومة الفكرية و التعليمية في بلاد شنقيط ، فإنه
في الواقع قد أسس لمنهج علمي جديد لم يكن معروفًا في هذه الربوع ، مكن لاحقًا طلاب العلم الشرعي من الاستفادة من وسائل الاستنباط و اعتماد أدوات القياس و التخريج و الاجتهاد و العمل بطرق الاستقصاء و الشمول، من أجل الوصول إلى الحقيقة التي يجب العمل بها وفق مقتضيات الشرع، الذي أمر العلماء بالاشتغال فيه بما ينفع الناس و يمكث في الأرض.
ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن رسالة الفقيه بالدرجة الأولى هي الحث على الاشتغال بطلب العلم والسعي في تعليم الجاهل وتهذيب سلوك المنحرف و الوقوف بحزم ضد كل ما يخالف الشرع
من العادات و البدع، مع التأكيد على دور الفقهاء المحوري في المسؤولية عن تنزيل مقاصد الشرع على الواقع المعاش للمجتمع، وهذا ما وصفه سيدي عبدالله بقوله في نشر البنود: “العلم بالأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها
على النوازل”، فلا يمكن حسب رأيه الفصل بين الفقه والواقع لما في ذلك من ضياع لمصالح العباد، ولا سبيل لتنزيل الأحكام على النوازل النازلة إلا بالتعمق في فهم مقاصد الشريعة الحنيفية السمحة، فالجمود على النصوص ضلال وإضلال.
ويحسب للفقيه سيدي عبدالله بن الحاج إبراهيم دعوته إلى فتح باب الاجتهاد وإعمال العقل لإيجاد الحلول المناسبة لمجمل القضايا المطروحة في زمنه، وقد أسهم هو نفسه في حل الكثير منها عبر “الفقه النوازلي” الذي ألف فيه تأليفا مستقلا.
وتبرز الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لوضع الفقه الإسلامي في سياق من الواقع يقدم حلولا مبتكرة لمشاكلنا المعاصرة، الدينية منها والدنيوية من خلال وضع أسس اجتهاد تجديدي يفهم أصحابه حاجة الناس للتيسير، ويراعون إكراهات العصر دون الخروج عن ضوابط الشرع الحكيم.
ومن أبرز الإشكاليات الجوهرية التي تحتاج لحلول عاجلة تدرء الفتن وتحقق وحدة البلاد و مصالحها، تبرز الإشكاليات التالية:
▪︎الهجرة و الأمن القومي
▪︎المشاركة السياسية للمرأة و قضايا النوع
▪︎بيت المال والحكامة المالية
▪︎النظام العقاري و العدالة الاجتماعية
▪︎عقود العمل
▪︎ نظام الشورى
▪︎طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه،
▪︎التأمينات و المعاملات المصرفية ▪︎الإنجاب الإصطناعي
▪︎نقل و بيع الأعضاء ونقل الدم وزرع الخلايا….. إلخ
و حسب اعتقادنا فإن الاجتهاد الجماعي المؤسسي يظل هو الخيار الأفضل لأنه يضفى شرعية الاجماع العام بما يحمله من المزايا التوافقية التي تجلب المصالح وتدرء المفاسد، وتضمن للأمة استمرار انسيابية تسيير شؤونها، و هو ما أشار إليه سيدي عبدالله بقوله:
والأرض لا عن قائم مجتهد
تخلو إلى تزلزل القواعد
وقد آن الأوان لفقهائنا ومفكرينا للعمل بروح الفريق والاستفادة من المزايا الكبيرة التي يتيحها التطور التكنولوجي من أجل خلق استجابة فقهية سريعة تحقق للمجتمع المشاركة في خلق تنمية اقتصادية واجتماعية تواكب عصر السرعة، مع المحافظة على أصول الفقه وتنزيل الأحكام الشرعية وفق ضوابط الفقه المتعارف عليها عند أهله.