حائط المبكى الموريتاني في المكسيك.{2} المقال الثاني: وصف حالة النزيف
تمهيد
منذ سبعينيات القرن العشرين بدأ تشكل طبقة متوسطة أو شبه متوسطة في موريتانيا على مدى الأربعين سنة الماضية تقريبا. وهذه الطبقة المتوسطة من الناحية العملية لم تتشكل بسهولة، كما أنها ليست طبقة متوسطة إلا بمعنى نسبي ولا يمكن أن تقارن بما تعنيه الطبقات المتوسطة بالمعنى الاصطلاحي اقتصاديا وذلك لهشاشة واعتباطية وعشوائية الروافد الاقتصادية التي اعتمدت عليها هذه الطبقة، رغم أهمية الطبقة المتوسطة عادة للحيلولة دون احتكاك الطبقة القاعدية والطبقة العليا وموازنتها للمجتمع.
ولأن الأسس الاقتصادية للمجتمع التقليدي الموريتاني في الريف من زراعة وتنمية مواشي قد انهارت بسبب الجفاف في السبعينات فقد أخذت الطبقة المتوسطة نسبيا تنشأ من الصفر تقريبا، على أكتاف الموظفين السامين، وخاصة من ذوي “الذمم الواسعة” أحيانا، ثم من المغامرين من التجار الصغار، و من المستفيدين من
التقسيم الدوري للعقارات من طرف الدولة٩
ثم من تجار المفرق والتجزئة المجتهدين و من بعض العمال الصبورين على الادخار، ثم من الموفقين في الكسب من العمل بالخارج، وكذلك من مربي المواشي وباعتها، ومن أصحاب الزراعات المحدودة، والوسطاء والمنتخبين بعد الديمقراطية وصغار مموني الدولة، وذوي الحرف المتميزين في الصيد التقليدي والنجارة والحدادة والخياطة.. إلى غير ذلك.. فأصبح لهذه الطبقة المتوسطة تعريف بأن المنتمي إليها هو من يملك منزلا متواضعا أو متوسطا وسيارة متوسطة الثمن، وله كفاف في حياته بعمل ما، أو مصدر دخل منتظم أو غير منتظم، يكفيه تقريبا لتغطية معاشه والوفاء بالتزاماته العادية في الحد الأدنى دون زيادة على ذلك إلا في طفرات نادرة.
وقد أدى سلوك طبقة من النخبة الأسمى التي حصلت على حظوة في المال العام أو في الكسب بطرق سريعة، إلى نوع من لهفة الطبقة الوسطى، الموصوفة بالهشاشة، إلى الثراء العاجل.
وهذه الحالة التي شخصت بعض أسبابها في المقال الأول من هذه السلسة عبر التخلي عن كل القيم ما عدا المادية؛ عوضت البحث المضني. والمتدرج عن الكفاف المتوسط إلى التلهف على الثراء السريع بأية وسيلة، وبغض النظر عن شرعيتها أوعدم شرعيتها الأخلاقية، بل والشرعية أحيانا. ولذا نشأ سوق المجازفة وبيع الغرر والمراباة الصريحة والمواربة. وبهذا نشأت طبقة انتهازية طفيلية تنمو على حساب هذه الطبقة الفاقدة للتوازن النفسي، والتخطيط الاقتصادي الإنتاجي.
فما هي نتائج هذا الاختلال العميق في عقلية الكسب لدى الطبقة المتوسطة ضمن هذا الوسط الأنتاجي الموبوء؟
تجارب مؤلمة
لقد وقع التباس شديد في أذهان الطبقة شبه المتوسطة بين مفهوم الغنى ومفهوم الرفاه، رغم أن أحدهما مفهوم موضوعي والثاني مفهوم معياري.. فأصبح من يظهر بمظهر الرفاه يحسب نفسه ويحسبه المجتمع غنيا، وأصبح مفهوم “اتبطرين” مفهوما مخادعا خداعا يمزج بين وضعين مختلفين.. ولذا تهافت أغلب المنتمين للطبقة المتوسطة نسبيا على الرعبة في الرفاه ما أمكنهم دون أن يحصلوا أسباب الغنى، حتى ولو كلفهم ذلك خسارة ما ملكوا، فانطلت عليهم الخدعة الكبرى نتيجة استحسان المجتمع لظاهرة الرفاه حتى ولو كان زائف الأسباب، فليس لازما عند المجتمع أن تكون غنيا حتى تكون مرفها ولا أن يكون دخلك غير مشبوه حتى تكون “غنيا محترما”.
ولذا نشأت مفاهيم غريبة غير قابلة للتصنيف، من أبرزها ظاهرة”التبتيب” التي ولد مصطلحها أصلا في شواطئ نواذيبو، خلال مبادلة صغار الباعة الموريتانيين مع البحارة الرومانيين والروس، لتعم البلد لاحقا. وهي في عمقها مقايضة تقوم على حظ وشطارة أحد الطرفين.
لذا شهدنا لاحقا أكثر من حالة غبن جماعي راحت ضحيتها أساسا الطبقة المصابة بلهفة الثراء أو الرفاه الزائف على الأقل، مثلا عبر ذريعة الزمن والنسيئة المبطنة بالتسويغات المتكلفة شرعيا. وكانت النتائج مريعة في بعض الأحيان على هذه الطبقة الضحية.
الضحية للهفتها وطمعها في الثراء العاجل، والرفاه الزائف، والضحية للطبقة الطفيلية الانتهازية.
ولأن حالة التلهف النفسي العامة على الرفاه لاتزال سائدة فإن آثارها تتكرر بصورة متجددة؛ لكن بإخراج مختلف ونتيجة واحدة، وهي الخسارة الماحقة في نهاية كل تجربة لهذه الطبقة، التي لاتخرج من حفرة وقعت فيها إلا لتقفز إلى أخرى أعمق، لأن الدافع واحد والعقلية واحدة.. والذاكرة معدومة.. والمراجعة غير متاحة.
أسباب داعمة:
ثمة أسباب داعمة لحالة التلهف والعمى الاجتماعي تجاه الرفاه والغنى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- حسية الذاكرة الجمعية
تعطل حالة التلهف على المتوقع ورشد التصرف وذاكرة الاسترجاع الرمزية لدى هذه الطبقة، ولذلك فإنها تنسى الأسباب السابقة للكارثة فور غيابها الزمني عن إحساسها، ودليل ذلك تكرار نفس الأسباب التي تؤدي إلى نفس الفشل دائما..
2- نقيصة العمل
وهي عقدة أدى إليها تراكم احتقار العمل لارتباطه عادة بعدم الرفاهية وانفصاله في اللاوعي عن قيم السيادة تاريخيا في المجتمع، فليس “حملا لسلاح ولا حملا لقلم”.. مع أن المجتمع حقيقة لم يكن يحتقر العمل بل يجله.. لكن لهفة الرفاهية التي شجعها مفهوم “اتبطرين” أطاحت بقيمة العمل عموما و الحرفي خصوصا في النفوس.. ومن ذلك أن “الكوس” عادي مثلا.
ولا أدل على هذه الحالة المهينة من كون الشباب الموريتانيين مستعدون للعمل اليدوي المضني في أي بلد سوى موريتانيا.. لأن نقيصة العمل الحرفي واليدوي تحاصرهم هنا. وعندما تغيب أعين الرقيب الاجتماعي السيئ يستعيد الشاب الموريتاني طبيعته ويقوم بأي عمل حتى ولو كان تربية بعض الحيوانات التي يمقتها بفطرته، أو تنظيف السيارات، أو خدمة العجزة.. وذلك حتى ولو كان بأجر أقل أو مساوي للعمل في وطنه.
فهو يهرب من مجتمعه ليعمل نفس العمل أو أسوأ في بلد أجنبي.
3 – ضعف الثقة في الوطن والميل لعقوقه، نتيجة لبعض الأسباب التي أدى إليها عدم مسؤولية النخبة في أغلب تاريخ الدولة، من محسوبية وجهوية وفئوية.. وغير ذلك من القيم السلبية المعمول بها خلال فترات متتالية في البلد، وفي زوايا إدارية واجتماعية ونخبوية فاسدة عديدة، تنتج أنماطا طاردة لكل من هو خارج دائرة تحميه على أي مستوى، وتهيئ له مكانة ينالها بغير حق ولا أهلية أحيانا كثيرة مما يفقد الثقة في النخبة النافذة من طرف الشاب فيعمم حكمه السلبي على وطنه.
كما أدى إلى هذا العقوق وضعف الثقة تجاه الوطن غياب التربية المدنية عن مقررات المدرسة وعادات العائلة، فينفك الشاب من الارتباط بوطنه.
4- ضعف الملكة الحسابية وتدقيق الربح والخسارة، وعدم الرشد والتبصر.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما سنورده هنا من معلومات حصرية دقيقة حول رحلة “حائط المبكى الموريتاني في المكسيك” حيث:
– هاجر حتى الآن إلى هذا الحائط مايربو على سبعة آلاف شاب موريتاني خلال السنتين الماضيتين، على أقل تقدير.
– كل شاب يصرف على نفسه أو يصرف عليه ذووه ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين أوقية قديمة في المتوسط. مما يعني أن المعدل هو أربعة ملايين أوقية قديمة، معتصرة من بيع منزل إو سيارة وحيدين، أو استدانة من بنك أو شخص، أو بيع قطيع حيوان، أو حلي..
فإذا ضربنا المبلغ المتوسط وهو أربعة ملايين أوقية قديمة في ستة آلاف شاب فسنحصل عل أربعة وعشرين مليار أوقية قديمة. استنزفت من دخل العائلة الموريتانية المتوسطة خلال أقل من سنتين.
ثم في حالة التوفيق إلى عمل مضن هناك، فإن الراجع قد لايكون ذا بال، ولن يستعاد المبلغ إلا خلال سنوات عديدة إضافة إلى ذل الغربة ومخاطرها، وفقد المساهمة في بناء البلد، وربما الانحراف السلوكي بسبب المغريات الرخيصة.. والسلبية المطلقة تجاه الأهل.
نزيف شبابي:
لو أن هذا المبلغ الكبير اختفى وحده لكانت المصيبة أخف.. لكن النزيف المتواصل سيحول موريتانيا في المدى المتوسط إلى أمة من العجزة، مهددة بإحلال سكاني أجنبي خطير، إذ أن بلدنا مقصد للهجرة العشوائية. وهذه كارثة استراتيجية شاخصة.
ومن الغريب في هذا الصدد أن كل من يدخل إلى موريتانيا من الأجانب يعيش مرتاحا وقد يثري أحيانا عبر العمل الحرفي أو التجاري.. مما يؤكد أن نزيف هجرة شبابنا سلوك خاطئ حاضرا ومستقبلا. فكيف يثري الآخرون في بلادنا ونهرب منها طلبا للعمل؟
بعد هذا الوصف لكم أن تتساءلوا:
– ما الحل؟
مع أن السؤال مطروح عليكم جميعا فسأساهم ضمن المقال الثالث من هذه السلسلة في الإجابة عليه قريبا؟
د. محمد ولد أحظانا