رد على محمد سالم المجلسي حول رؤية الهلال…/ بقلم : الشيخ سعد بوه ولد عبداتي

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد :
فقد أُثريت الساحة العلمية في البلد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بنقاشات علمية مفيدة حول مسئلتين علميتين هما :
1- هل المعتبر في إثبات رؤية الهلال عموم الرؤية ؟ أم أن لكل قُطر رؤيته؟
2 – هل عرفة يوم الوقوف أم هو زماني متعلق بيوم التاسع من ذي الحجة؟
وقد أسهم جمع من العلماء في هذه النقاشات إلى أن بدأت هذه النقاشات تسلك منحنى آخر بعيد كل البعد عن أدب الحوار والإنصاف للأسف الشديد.

وقد استوقفني من كل هذه المقالات والصوتيات ما يدعيه الشيح محمد سالم المجلسي من أن القول بعموم الرؤية هو الراجح وعليه الجمهور وأنه هو قول مالك، وأن الراجح في مذهب العلماء أن عرفة هو يوم الوقوف ، ولم أر من بين جميع الردود التي رُدت عليه من ركز على هاتين المسألتين حتى توهم القارئ أن ما قاله المجلسي فيهما مسلَّمٌ ومُقرر، والحق غير ذلك ، ولبيانه بحول الله وقوته أقول:
أولا : الراجح والمشهور القول القائل باختلاف المطالع خلافا لما ذكره المجلسي من أن الراجح القول بعموم الرؤية، والدليل عليه حديث كريب الذي أوهن المجلسي الاستدلال به، ونصه كما في مسلم قال كريب إن :
أُمَّ الفَضْلِ بنْتَ الحَارِثِ، بَعَثَتْهُ إلى مُعَاوِيَةَ بالشَّامِ، قالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الهِلَالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الهِلَالَ، فَقالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الهِلَالَ؟ فَقُلتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَقالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فلا نَزَالُ نَصُومُ حتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلتُ: أَوَلَا تَكْتَفِي برُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.

وهذا الحديث له حكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كما صوَّره البعض بأنه مجرد رأي لابن عباس، فمن المعلوم عند أهل الحديث قاطبة أن قول الصحابي ” كنا نؤمر” “أو كنا ننهى” له حكم الرفع، فكيف وفي هذا الحديث أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– ثم مما يقوي أرجحية هذا القول المستدل عليه بهذا الحديث أن الصحابة لا يوجد من بينهم من خالف رواية ابن عباس فأكملوا الشهر ثلاثين يوما عامهم ذلك، فهذا يعارض ما قاله المجلسي من أن الجمهور ومنهم الصحابة مذهبهم القول بعموم الرؤية، ولم يستثن منهم الا ابن عباس.

فقد قال الإمام الترمذي في سننه عند هذا الحديث ” والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل بلد رؤيتهم” ومن المعلوم أن من مصطلحات الترمذي في نسبة العمل بحديث إلى الجمهور عبارة ” والعمل على هذا الحديث”.

وقد نص الإمام ابن عبد البر الإجماع على اختلاف المطالع حيث قال ” وأجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُدَ من البلاد” كما نقله وسلمه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري وقبله القرطبي في المفهم.

فدل هذا الإجماع على مسألة غابت تمام الغياب عن المجلسي فلم يدقق فيها ، ولم يضع المقصل على المفصل منها ولم يحدد محل النزاع بل خلط بين مسئلتين الفروق بينها لا تخفى على من هو مثله ممن مارس العلم وهي أن القول بعموم الرؤية له محلَّين لأهل العلم فيهما الكلام الأولى الخلاف في عموم الرؤية بين الأقطار المتقاربة وهذه هي التي أكثر العلماء النقاش فيها، أما عموم الرؤية بين الأقطار المتباعدة جدا فالإجماع على أن لكل قطر رؤيته الخاصة به، يقول القرطبي في المفهم ” والصواب الفرق – أي بين البلاد المتقاربة والمتباعدة- بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر، فيحمل إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة، والله تعالى أعلم” وهذا الإجماع أيضا نقله ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد فقال : ” وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز.”

ولتنزيل هذه المسألة على بلادنا الجمهورية الإسلامية الموريتانية وبلاد الحرمين الشريفين لا يخفى ما بينهما من المسافات البعيدة التي تجعله لاحقة في المسألة الأخيرة المجمع على اختلاف المطالع بين القُطرين فيها.

ولأن المجلسي خلط بينهما وجعل الكلام فيهما واحدا فنرد على استدلالاته التي لخصها من كتب الأئمة ونقول إن أقوى ما يرجح القول باختلاف المطالع اتفاق أهل علم الفلك أن المطالع متختلفة وهذا الاكتشاف العلمي مما يُرفع به الخلاف بين العلماء لأن مسئلة وجود الهلال من عدمه فلكية وليست من الشرعيات وإنما رتب الشرع أحكاما عند الرؤية فقط، لا أن بحث نوع الهلال وطبيعته وحركة الشمس مما يشكل موضوعات علم قائم بذاته له متخصصون فيه يثبت شرعا، إنما يثبت شرعا ما رتبه الشارع عليه، وهو اليوم من أدق العلوم لذا تجاهله وإعطاءه حكمَ التنجيم يجعل صاحبه أضحوكة عند علماء الفلك اليوم حيث هو يهذر بما لا يعرف تماما كمن كان فلكيا ويتكلم عن قوادح العلة ومسالكها أو أنواع القياس.

ومن المعلوم أن أكبر سبب في انتشار العلمانية في العالم هو تصادم نصوص الديانتين المسيحية واليهودية لبديهيات العقول واكتشافات العلماء المتخصصين في كافة الفنون، وقد حفظ الله ديننا الإسلامي بأن كان دينا يعتني بالعقل ويحترم العلم وليس فيه ماهو مصادم للعقل والعلم، مما جعل كثيرا من علماء الفيزياء والفلك وغيرهما ممن يؤمن بوجود الله جل وعلا يختار الدين الاسلامي لأنه الدين الوحيد الذي يمكن أن يدين الله به ولا يتعارض مع ما العلوم التجريبية.

فأحرى بالمجلسي الذي يعتبره جيل من شباب الوطن من أبرز الوجوه العلمية والدينية في البلد بل وفي العالم أن يعطي لهذا المنزع حقه من النظر.

– ثم إن المجلسي قال إن مذهب مالك هو القول بعموم الرؤية بدون أن يذكر سند تلك الرواية ولا أن يحكي عن الإمام مالك رواية أخرى مما يجعل القارئ في حيرة من أمره ، والصحيح الجمع لين رواية ابن القاسم في عموم الرؤية ورواية المدنيين عنه باختلاف المطالع، فيقال في الأولى إنه يقصد ما تقاربت مسافته، وفي الرواية الثانية ما تناءت حدوده.

ويدل على هذا قول ابن عبد البر في الاستذكار ” ورى المدنيون عن مالك وهو قول المغيرة وابن دينار وابن الماجشون أن الرؤية لا تلزم غير أهل البلد الذي وقعت فيه، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك” انتهى منه فلماذا لم يعر المجلسي لهذا القول أي اهتمام؟.

*- ثم كيف يتجاهل قول الإمام القرافي في الفروق ” والحق أنه يعتبر لكل قوم رؤيتهم وهلالهم، كما يعتبر لكل قوم فجرهم وزوالهم”

وقال أيضا “إذا تقرر الاتفاق على أن اوقات الصلوات تختلف باختلاف الآفاق، وأن لكل قوم فجرهم وزاولهم وغير ذلك من الأوقات فيلزم ذلك في الأهلة ، بسبب أن البلاد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمس تتحرك مع القمر إلى الجهة الغربية فما تصل الشمس إلى أفق المغرب ، إلا وقد خرج الهلال من الشعاع فيراه أهل المغرب ولا يراه أهل المشرق، هذا أحد أسباب اختلاف رؤية الهلال وله أسباب أخر مذكورة في علم الهيئة لا يليق ذكرها هاهنا … وأما وجوب الصوم على جميع الأقاليم برؤية الهلال بقُطر منها، فبعيد عن القواعد، والأدلة لم تقتض ذلك فاعلمه”

فرحمه الله ما أحسن ما قال وما حقَّق ولا تفوتك الجملة الأخيرة منه، فقد وضع المقصل على المفصل.

ورأى هذا الرأي المحققون من أهل العلم كالرافعي في فتح العزيز وابن عابدين في حاشية رد المختار والكاساني في بدائع الصنائع والزيلعي في تبين الحقائق والكمال بن الهمام في شرح فتح القدير والزَبيدي في اتحاف السادة المتقين، وهو الذي اعتمده المجمع الفقهي فاعتمد اختلاف المطالع.

وغير ذلك ممن يطول ذكره ولو جلبت نصوصهم لطال بنا المقام.

ولكن نذكر نماذج من آراء من يراهم المجلسي أئمة له مثل ابن تيمية رحمه حيث يقول في الفتاوى بعد مناقشة طويلة للموضوع ” والحجة فيه أنه ما زال في عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولا بد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام ، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، ولكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولمَّا لم ينقل دل على أنه لا أصل له ، وحديث ابن عباس يدل عليه”

وكذلك إمام السلفية المعاصرة الشيخ صالح بن عثيمين حيث قال في فتاويه ” أما إذا اختلفت المطالع فلكل بلد حكم نفسه وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ظاهر الكتاب والسنة ومقتضى القياس”

ونفس الرأي قال به ابن باز والشيخ الفوزان وغيرهما من علماء المملكة العربية السعودية.

ومما استدل به المجلسي كلام شراح مختصر خليل عند قوله” وعمَّ إن نقل بهما عنهما” فقال إن ذلك العموم المقصود جميع البلدان واستدل بشرح العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي في لوامع الدرر عند ذلك الموضع ” فمعنى عم أنه يعم أهل البلاد وجوب الصوم بسبب ذلك النقل” فياسبحان الله لو أن غيرك فعلها كيف لم تكمل كلام صاحب اللوامع حيث” شرط ذلك بعدم البعد جدا”
فنص كلامه كاملا غير مبتور بترا مقصودا ” فمعنى عم أنه يعم أهل البلاد وجوب الصوم بسبب ذلك النقل، لكن بشرط عدم البعد جدا” فلماذا لم يذكر المجلسي ذلك ؟
وهكذا كافة شراح المختصر يقيدون كلام خليل هنا بعدم تباعد البلدان وانظر إن شئت الشراح من لدن بهرام إلى آخرهم.

وبهذا الكلام الوجيز يدرك أن الراجح الذي رجحه العلماء في كتبهم الأخذ بحديث كريب عن ابن عباس لأنه صريح في الباب وأن العمل عليه عند أهل العلم ولأن الإجماع منعقد على الأخذ به في البلدان البعيدة.

أما ما استدل به الصنف الثاني من القائلين بعموم الرؤية بدون من حديث ” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” فلم يره الإمام ابن رشد الحفيد دليلا صالحا للاستدلال به في هذا الباب، فجعل القائلين بعموم الرؤية لا دليل عندهم إلا من النظر فقط فقال في بدايته عند هذا الموضع ” والسبب في هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر… فظاهر هذا الأثر – أي أثر كريب عن ابن عباس- يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعُد، والنظر يعطي الفرق بين البلاد النائية والقريبة، وبخاصة ما كان نأيه في الطول والعرض كثيراً”

ومن أحسن ما سُطر في الجواب عن الاستدلال بحديث ” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ” جواب ابن عبد الرزاق في العذب الزلال حيث قال” هو مفسر بحديث ” إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ” وذلك لأن معنى ” صوموا لرؤيته ” أي صوموا لرؤيتكم للهلال بدليل ” إذ رأيتم الهلال فصوموا” وعليه فالخطاب في كل منهما هو موجهٌ لكل طائفة من المسلمين ولا إشكال، وليس في ذلك أدنى إشارة إلى أن رؤية بعض تعم جميع أهل الأرض ”

ثانيا : المعتبر في غرفة هو الزمان وليس المكان

الراجح الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح أن عرفة عند سائر الأقطار زماني متعلق بيوم التاسع ذي الحجة وأنه عند الحجيج زماني مكاني، والدليل على هذا قول الله سبحانه وتعالى ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ” فالأهلة إذا مواقيت للناس في كل شيء وخاصة الحج الذي يعتبر الوقوف بعرفة من أكبر أركانه فقد وصفه الله تعالى بأنه زماني وليس مكانيا فيدخل فيه يوم عرفة الذي يشمله لفظ الحج قال تعالى ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ) أي أن شعائر الحج صحتها شرعا متعلقة بزمان الحج فدخل في هذا يوم عرفة فهو يوم التاسع من شهر ذي الحجة ، والدليل على ما ذهبت إليه من النظر أن من وقف بجبل عرفة في غير يوم التاسع من ذي الحجة لا يعتبر وقوفه ذلك مجزيا لأن هذه العبادة مرتبطة بهذا الزمان بالضبط فلا تجزئ في غيره وهذا محل إجماع.

أما ما استدل به المجلسي بأن عرفة هو يوم الوقوف بالجبل فهو بعيد كل البعد عن بلوغ مراده، فقد استدل بحديث “«ما مِن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أوأمةً من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة» أخرجه مسلم.

فأين الدليل بالعبارة على أن عرفة هو يوم الوقوف فقط؟؟ إنه كما ظاهر لادليل من العبارة على أن عرفة مكاني بخلاف القول بأنه زماني فهو صريح في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس».

فلماذا عدل المجلسي عن هذه العبارة الصريحة التي يعضدها عمومات الشرع والعقل إلى مفهوم ينقاضهما، وذلك أن في استدلاله شميم من رأي بعض المشبهة الذين يرون أن الدنو في يوم عرفة دنوٌ حسيٌّ لذلك فإنه يقع يوم وقوف الناس بعرفة فقط، أما من يرى أنه دنو فضله ورحمته فلا إشكال عنده أنهما مرتبطان بيوم التاسع من ذي الحجه سواء وافق ذلك وقوف الحجاج بعرفة ام لم يوافقه، وهذا بالقياس على حديث النزول في ثلث الليل الأخير حيث ورد في الحديث « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له »

فمن المعلوم ضرورة أن ثلث الليل لا يخلوا في كرة الأرض فهل معناه أن النزول حسيٌ فيقتضي ذلك النزول في كل وقت ولا يخفى ما في هذا من الجراءة على الله ونسبة التنقل والحركة اللذين هما من صفات المخلوق له جل وعلا.

فإذاً نزولُ رحمة الله وفضله ومغفرته ربطه الله بيوم التاسع بذي الحجة، وليس بيوم الوقوف على جبل عرفة، وهذا موافق للمنقول الصحيح والعقل والسليم.

مقالات ذات صلة