الجيش والأمن بين هالة القداسة واستبداد الحكم.
منذ عقود طويلة ارتبطت الأنظمة السياسية في كثير من دول العالم العربي – ومنها بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط – بسيطرة المؤسسة العسكرية والأمنية على الحكم أو على الأقل بكونها الحكم الفعلي بين القوى السياسية والمدنية. وقد بدأت هذه الظاهرة بوضوح منذ سبعينيات القرن الماضي حين تحولت الجيوش من أداة وطنية لحماية الحدود والسيادة إلى لاعب سياسي واقتصادي وثقافي يمسك بمفاصل الدولة.
فالجيش والأمن وجدوا تاريخيا كأجهزة مخصصة لحماية البلاد من الأخطار الخارجية وضمان الاستقرار الداخلي غير أن التحولات السياسية خصوصا بعد الانقلابات العسكرية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين جعلت هذه الأجهزة تتجاوز أدوارها التقليدية لتصبح هي الحاكم الفعلي
فقد رأت القيادات العسكرية أن المدنيين – بضعف تنظيماتهم الحزبية وتشتتهم – غير قادرين على إدارة الدولة فتدخلت لتضع يدها على السلطة بحجة “حماية الوحدة الوطنية” أو “مواجهة الاستعمار الجديد”. لكن النتيجة كانت أن الحكم صار يتوارث بين قادة الجيش والأمن وكأنها ملكية مقنّعة.
ولكي تبرر هذه السيطرة جرى إحاطة المؤسسة العسكرية والأمنية بهالة من القداسة بحيث صورت كخط أحمر لا يجوز المساس به. وروّج لخطاب يمزج بين الوطنية والتضحية حتى بدا وكأن أي نقد للجيش هو خيانة للوطن كما منح رجال الأمن صورة “الحماة” الذين يضحون لأجل المواطنين في حين أن واقع التجربة أظهر أن بعضهم كان أداة لقمع الشعب نفسه وحماية السلطة من مساءلة المواطنين.
وهذه القداسة الزائفة خدمت هدفا أساسياهو إبعاد الجيش والأمن عن أي نقاش ديمقراطي أو مراجعة مدنية لأدوارهم وكأنهم فوق الدستور والقانون في حين أنهم جزء من الدولة مثل غيرهم.
والمعضلة الكبرى أن هذه الهيمنة لم يوقفها عامل الزمن ولاالتقدم في العمر، أو انتهاء الشرعية بالتقاعد ولا التحولات العالمية نحو الديمقراطية، كلها لم تغير شيئا من المعادلة.
فالطمع في الحكم ظل ملازما للقيادات العسكرية والأمنية، وأصبح التقاعد مجرد منصب جديد في شكل “مجلس استشاري” أو “مجلس أعلى”، بينما بقيت السلطة تدور في نفس الحلقة.
وكانت النتائج تآكل الدولة والمجتمع
إنّ استمرار الحكم بيد العسكر والأمن قاد إلى تآكل الدولة من الداخل:
تراجع التنمية بسبب تغليب المصالح الأمنية على المصالح الاقتصادية والاجتماعية.
إضعاف السياسة المدنية حيث همشت الأحزاب، وأُفرغت المؤسسات البرلمانية من دورها.
انتشار الفساد بفعل غياب الرقابة الحقيقية.
إهدار الكفاءات لأن المناصب العليا تمنح على أساس الولاء لا الكفاءة.
وهكذا بدل أن يكون الجيش والأمن ركيزة لحماية البلاد أصبحا في كثير من الأحيان عبئا على المجتمع.
ولتصحيح المعادلة
لا يمكن إنكار أهمية الجيش والأمن كأجهزة لحماية الدولة لكن الخطأ الجوهري يكمن في تحويلهما إلى سلطة سياسية مطلقة
والمطلوب هو:
1.إعادة تحديد دور الجيش والأمن ضمن الدستور بحيث يقتصر على الحماية والدفاع.
2.إخضاعهم للرقابة المدنية والبرلمانية مثل أي مؤسسة أخرى.
3.ترسيخ ثقافة التداول السلمي للسلطة وإبعاد المؤسسة العسكرية عن اللعبة السياسية.
4.إعادة بناء الثقة بين الشعب وهذه الأجهزة عبر الإصلاح والشفافية والمساءلة.
إنّ القداسة التي أُضفيت على الجيش والأمن ليست قدرا مقدسا بل صناعة سياسية هدفت إلى حماية امتيازات النخب الحاكمة. ومنذ سبعينيات القرن الماضي أثبتت التجربة أن استمرار هذه الهيمنة لم يؤد إلا إلى خراب الاقتصاد وتآكل المجتمع وإضعاف الدولة وما لم يتم الفصل الواضح بين المؤسسة العسكرية والأمنية من جهة، والسلطة السياسية من جهة أخرى فإن مسلسل التوريث والهيمنة سيستمر وسيبقى الوطن يدفع ثمن طموحات فئة قليلة اختزلت الدولة في نفسها.
ﺃﺣﻤﺪجدو.ول.حني
