معهد ورش..محاظر تنهض وأمة لها رجال (ح2) باباه ولد التراد

 

خلال الغزو الفرنسي لموريتانيا استهدفت السياسة الاستعمارية  استئصال جذور المجتمع الموريتاني  وثقافته الإسلامية والعربية ‘ غير أن المحاظر وقفت سدا منيعا في وجه الاستعمار الفرنسي البغيض وما يرافقه من استلاب حضاري مقيت، وأصبحت هذه المحاظر مراكز للمقاومة بشتى الوسائل الثقافية والعسكرية  والسياسية ضدّ  الاستعمار الفرنسي وضد إرادته  في فرض اللغة الفرنسية على المجتمع الموريتاني.
لذلك حاول الاستعمار القضاء على المحظرة، لما لها من دور في ترسيخ الهوية  وتأصيل الشخصية الموريتانية ، وفي هذا الصدد كتب الحاكم الفرنسي العام في غرب افريقيا في تقرير إلى وزير المستعمرات (1902) عن صعوبة مهمته التي اعترض سبيلها الخصوصية الثقافية للشناقطة حيث يقول: ..وجدنا شعبا له ماض من الأمجاد والفتوحات لم يغب عن ذاكرته بعد ومؤسسات اجتماعية لا نستطيع أن نتجاهلها
وفي ذلك يقول محمد يوسف مقلد: الشيء الرائع في حياة الموريتانيين، أن التأثير الفرنسي ظل تأثيرا محدودا لم يستطع، رغم كل المحاولات، أن يضعف فيهم الروح العربية الاسلامية فبرهنوا بذلك على مناعة قوية يستحقون من أجلها أعظم الإعجاب والاحترام.
ومع ذلك ضاعفت فرنسا جهودها من أجل إحلال لغتها و ثقافتها بدلا من ثقافة المحظرة، لقطع موريتانيا عن محيطها .
ورغم محاولات الاستعمار المتكررة إخضاع المحاظر لسلطته ، فقد فشل في تدجين المحظرة وتعطيل  دورها المقاوم ،
وبما أن المحظرة  لها مكانة مرموقة في نفوس الموريتانيين فقد استطاعت أن تقف في وجه المستعمر من خلال :
1- تحصين أفراد المجتمع ضد الاستعمار عن طريق  نشر  الثقافة العربية الإسلامية في ربوع البلاد كافة.
-2إصدار الأحكام الشرعية واستحضار النصوص التي تحرم ثقافة المستعمر والتعامل معه.
3- العمل على تجسيد  متطلبات المقاومة الثقافية  عن طريق مقاطعة المدارس الفرنسية، وتشبث الجميع بالمحاظر وعلومها ،  وهذا أشد وقعا على الاستعمار ، الذي  لم يجد من يتجاوب معه إلى أن اضطر لفرض الدراسة على أبناء الشيوخ ، لتنصاع القبائل معهم ، ولكن هذه  الحيلة أخفقت .
وهذا هو الذي  يفسر  حديث الحاكم الفرنسي  لكرت   حين قال: عالجنا مشكلة التعليم فور دخولنا موريتانيا، ولكنها مشكلة حادة، لقد وجدنا أنفسنا في مستعمرات أخرى في ساحة فارغة أمام شعوب متلهفة إلى محاكاتنا، أما موريتانيا فإن المقاومة التي ينمو نفوذها عن طريق التعليم المحظري بدت مقاومة صلبة.
ومع ذلك فإن نخب موريتانيا الذين تعلموا في عهد الإستعمار وبداية الإستقلال ، تم تجنيد معظمهم لحماية وجود الفرنسية في موريتانيا وإقصاء  العلوم المحظرية
ونتيجة لذلك أصبح جل المواطنين الموريتانيين مهمشين في وطنهم ، وتم استبعاد علماء المحاضر من وظائف الدولة ، وفي نفس الوقت ينظر إليهم بازدراء من طرف الإدارة و القائمين عليها’ حيث  يقول الخليل النحوي  في كتابه: ” بلاد شنقيط المنارة والرباط ” :
(فلو أن شيخ محظرة طرق باب إحدى المؤسسات الكبيرة في العاصمة ـ وكثيرا مايحدث ذلك ـ  لما وجد أفضل
من وظيفة بواب أوحارس أوفراش أوحامل بريد ، ذلك أن نظم الوظيفة العمومية وطرق العمل ومناهجه ولغته ـ
وهي أشياء موروثة عن الإستعمار ـ لاتضع في حسابها هذه الفئة من المواطنين التي لاتحمل مؤهلات ورقية
وكان المستعمر يسم علماء المحاضر في أوراق الحالة المدنية بالأمية ، وهكذا أقبل شباب المحاضر على الدولة
يطلبون في كنفها لقمة العيش وماء الوجه).

وقد أدى هذا الواقع المرير الذي ساهمت فيه الحكومات التي تعاقبت على بلادنا إلى هجرة الشباب عن المحظرة.
وبما أن  موريتانيا لا يمكن أن تكون لها هوية مستمدة من غير المحظرة فقد دأب الوطنيون الشرفاء يبحثون عن أنجع الوسائل من  أجل النهوض بالمحظرة وعلومها .
وهنا نجح معهد الإمام ورش لتحفيظ القرآن في موريتانيا باستحداثه لبعض الأساليب والأهداف التي  من بينها:

– إدخال  الوسائل الإدارية والتعليمية الحديثة.

– إعادة الاعتبار لمعلم  القرآن وتخصيص مرتب شهري له مثل كافة الموظفين.

ذلك أن من أهم الأهداف التي تسعى  المحظرة إلى تحقيقها يمكن إجمالها أساسا في تكوين أجيال ونخب تستجيب للمتطلبات الإسلامية والوطنية والقومية، وهذا لايمكن تحقيقه اذا لم تتشبع منظومتنا التعليمية من الروافد المستمدة من ديننا الاسلامي الحنيف، لأن الرجوع الى الفكر العربي الاسلامي الاصيل  يشكل صمام أمان في وجه موجة إفساد عقول الشباب، والغزو الفكري والثقافي ،والتفكير بعقلية الغرب الدخيلة تحت مظلة العولمة وحرية الاديان وإتاحة المغريات وثورة المعلومات ، التي فتحت الباب على مصراعيه للانحراف والاستلاب العقدي والأخلاقي بدون ضابط ولاحياء
ومن هنا تأتي أهمية  المحظرة والتربية الإسلامية التي تحتل مكانة خاصة في العملية التربوية ،كونها الوسيلة العملية الوحيدة في بناء وتكوين أفراد المجتمع، ،وذلك من خلال ما تتضمنه من أبعاد روحية وأخلاقية تجعل المتعلم يعيش في ظلها حياة ملؤها السعادة والاطمئنان ، و يشعر بالراحة النفسية والاجتماعية، لأن الإسلام دين يقوم على العقيدة الراسخة والعبادة الخالصة لله الواحد الأحد، وهو دين يدعو الى التفكير والنظر ،ويحث على الأخلاق الكريمة والعلم والعمل.
أما الإنسان الذي أعرض عن التعاليم الدينية ،أوتم حجبها عنه لأي سبب ، فسيشعر بالإحباط والقلق والتوتر والاضطراب النفسي والفراغ الروحي والاكتئاب ، ويكون معرضا أكثر من غيره للانتحار والهروب والإختطاف والعقوق والإدمان على المخدرات والمستجدات التافهة ،والفساد الخلقي والاجتماعي .
لذلك أولى الإسلام رعاية كبيرة، وعناية بالغة بالشباب؛ من حيث تربيته وتنشئته على الخير والصلاح، وحمايته ووقايته من الشر والفساد ، واستجابة لهذا التوجه فإن المتعلم الذي اهتم بدينه الحنيف حري به أن يعرف قيمة الدنيا، و يعلم أنها مطية الآخرة’  وأن ما عمله فيها سوف يجده ويحاسب عليه ، كما أنه يدرك أن التربية الإسلامية هي التي تنظم حياة المسلم وتحقق له السعادة في الحياة الدنيا والآخرة، لأن المضامين المعرفية لهذه المادة تكتسي صيغة تعليمية قابلة للتحول الى أنشطة تساهم في تشكيل ذات المتعلم وشخصيته المستقبلية .
ومع ذلك تمتاز التربية الإسلامية بعدة خصائص من أبرزها جملة أنها:
ـ ربانية المصدر: وهذه الخاصية لها أهمية كبرى حيث يثق المتعلم بالتربية الإسلامية، لأنها من عند الله، الذي خلق الإنسان ويعلم ما ينفعه وما يضره ، ويترتب على ذلك بناء تصور فكري سليم عن الكون والحياة ،لأن التربية الإسلامية يقينية العلم، منزهة عن الخطأ البشري.
ـ ثابتة الأسس: لأن مصدرها ثابت غير خاضع للتحريف والتغيير والتبديل،، وليس معنى ذلك أنها تتصف بالجمود ، أي أن الثبات فيما يخلد ويبقى والمرونة فيما يخلد ويتطور ،
ـ الشمول: تتصف التربية الإسلامية بالشمول،لأنها تشمل الإنسان والكون والحياة،حيث لم تغفل النصوص الشرعية رعاية أي جانب من جوانب الشخصية الانسانية سواء كانت دينية أو دنيوية
ـ التكامل: إن ميادين التربية الإسلامية لا تقتصر على مكان دون آخر فهي تتم في المدرسة والمسجد والبيت والشارع .
ـ الإيجابية: إن التربية الإسلامية تعطي المتعلم شعورا بأنه مخلوق مكرم استخلفه الله لعمارة الأرض ،وهذا يدفعه إلى الفاعلية والايجابية السوية
ـ التوازن: وهو التزام الاعتدال والتوسط فلا افراط ولا تفريط.
ـ الإنسانية : تتسم التربية الإسلامية بالنزعة الإنسانية، لأن الإسلام دين عالمي لم يفرق بين أسود وأبيض إلا بالتقوى.
ـ إلزامية التطبيق : من أهم غايات العلم في الإسلام، هو ربط الايمان بالعمل ، فالتربية في الإسلام جزء رئيسي من الواجبات الدينية ،يؤاخد الفرد على تركها كما يثاب على فعلها.
ـ علمية واقعية: لانها تحث على العلم ، والتفكير وترفع من شأن العلماء ،أما أبرز دلائل الواقعية في الشريعة الإسلامية فهي قاعدة :التيسير ورفع الحرج .

مقالات ذات صلة