شذرات من حياة العالم والشاعر محمد محفوظ ولد جار الله

من المصلحين الذين تَزهو الصَّفحات برقم مآثرهم العلامة محمَّد محفوظ بن جار الله (1920–1994) ترجَم له شيخنا محمد يحيى بن سيد أحمد في الأزهار النَّديَّة.
وقد كان ابنُ جار الله ناصحا أمينا, ومدرِّسا مُبينا, مهتمَّا بقضايا الأمَّة المسلمة, متأسِّفا على حالها, وممَّا قاله في نصح المرأة المسلمة بلسان الشَّفقة:
حدِّثيني عن الكتابِ المُبينِ..
دون أن تُلحِدي به أو تَميني

أو تديني مَن قلَّدوه بذنبٍ..
فتكوني بذاك شرَّ مدينِ

لا تقولي بهِ إضاعةُ حقِّي..
والسِّيَّاساتُ كلُّها تَعنيني

أيّ حقٍّ علَّمتُه لكِ في أن..
تَخلَعي حِلْيةَ الحياءِ الرَّزينِ

أو تَجولي بَين الشَّوارع مكشُو..
فةَ رأسٍ أو مِعصمٍ أو جبينِ

أفترضَينَ بالتَّفسُّقِ دِينا..
بدلَ الدِّين بالكتاب المُبينِ !؟

وكان -رحمه الله- قريبا من الناس مألوفا, يُخالط عمومَهم, ويعيش معهم هُمومَهم, ولم يَكن مُترفا يَقطف من زَهر, وممَّا يُبيِّن ذلك قوله في ركوب حافلات النقل في العاصمة:
راكبُ البيسِ حيث كان سَجين..
تَعتلي منه زَفرةٌ وأنينُ

حُفَّ بالأنفُس الثِّقالِ وأخلا..
قٍ خِباثٍ أخفُّها التَّدخينُ

وسواء مَن قصدُه بركوبٍ..
كارفورٌ مَن قصدُه تُوجُنينُ.

وحين رأى ازدِراءً متواصلا بمدرسِّ اللغة العربية, قال منتقدا تلك الحالة, وهو المدرِّس النِّقريس, العارف بأساليب التَّدريس, والطَّامح لتبليغ رسالة المدرِّس:
إن تَكنْ ذا نَفسٍ تُحِسُّ ازدِراءً..
وهَوانا بلهَ النُّفوس الأبِيَّهْ

لا تَكن مُقرئا إذَنْ عربِيًا..
أهونُ النَّاسِ مُقرئوا العربِيَّهْ.

وقد كان عالما أديبا, وداعيا أريبا..وكانت له صداقة بأبرز علماءِ
عصره..قال فيه المختار ولد حامدُن:

قَضى اللهُ يا محفوظُ أن لستُ زائلا..
أُحيِّيك حتَّى يُسلِمَ النَّفسَ مسلِمُ

“إذا طلعَت شمسُ النّهار فإنَّها..
أمارةُ تسليمي عليكم فسلِّمواْ”

وممَّا يدلُّ على ما كان عليه جيلُه من العلماء مِن تواضع وقلَّة تكلُّف وأنسٍ بمجالسِ العلم والأدب أنَّ محمدْ محفوظ كتب إلى محمد سالم بن عدُّود:
مَن لي بأنسِ ابنِ عدُّودٍ وإتقانِ..
آدابِه حين ألقاه ويلقاني

تلك اليواقيتُ والدُّرُّ المثقَّبُ لا..
“ياقوتةٌ أُخرِجت مِن كِيس دهْقانِ”

فأجابه ابن عدُّود:
لكم عليَّ وإن قصَّرتُ حقَّانِ..
لا يُلحقانِ وللتَّوظيفِ رِقَّانِ

والموعِدُ الأربُعا في بَحرِ عاشِرةٍ..
في مكتبي حين لا “الذَّلفاءُ” تَلقاني

فاستعملا في تفاهم راقٍ بيت الشاعر:
إنما الذَّلْفَاءُ ياقوتةٌ..
أُخرجَت من كيسِ دِهقانِ.
والذَّلفاء جارية قديمة أعجبَ الناسَ حسنُها, وأذهلهم منطقُها.

وفي محمد محفوظ قال محمد بن بَيدَر:
يا طالبَ الأدبِ المحفوظ مَعهدُه..
مِن كلِّ ما شِئتَ, مسموعٌ وملحوظُ

لا تُتعِبِ النَّفسَ يوما في تطلُّبِه..
فمعهدُ الأدبِ المحفوظِ محفوظُ.

فأجاب محفوظ بقوله منوِّها بعلمِ صاحبه:
هذا إذا لم تَجد محمَّدا ومتَى..
وجدتَّه فمقُولُ الكلِّ مَلفوظُ

قيِّد بلفظِك أو بالقلبِ ذاكَ بذا..
فالقولُ نَوعانِ منويٌّ ومَلفوظُ.

هذا العالمُ الأديب الذي عاشَ داعيا قريبا من النّاسِ, متواضعا, موطَّأَ الأكناف, هو أحد جواهر سُموط فريدة يُبدِّد نورُ ذِكرها القولَ إنَّ كلَّ سلفيِّ المعتقد في هذه البلاد قد ملأ عِيابَه من الحظوظ المادية التي تُجبى إليه من جهات ينشُر أفكارَها, ويحرس أوكارَها..وهو قول هوى نَجمُه, ولاح للمُنصفين رَجمُه.
لأنَّ هذا العالم كان سلفِيَّ المعتقَد, مبتعدا عن كلام الأشاعرة ومسالك الطُّرقِيِّين, وقد قال في نظمه “السِّيرة البهية” لأئمة المذاهب الفقهية:
قال أسيرُ ذَنبه المحتاجُ..
المرتَجي أن يَسهُلَ المنهاجُ

المالكيُّ مذهبا والسَّلفي..
مُعتقدا, بلهَ اختلاف الخلَفِ…
رحمه الله, وأدخله في جنات رضاه.

مقالات ذات صلة