
أزمة الإنسان الشريف في العصر الحديث بين الصمود الأخلاقي وسخرية الواقع
ونعيد نشره على واجهة الهدهد لتعم الفائدة ….
في زمنٍ تتبدل فيه القيم سريعًا، وتعلو فيه رايات المنفعة على حساب المبادئ، يجد الإنسان الشريف نفسه في مواجهة مأزق وجودي حاد: هل يتمسك بمثله العليا مهما كان الثمن؟ أم ينخرط في لعبة المصالح والانتهازية ليستطيع العيش والمواكبة؟ السؤال هنا ليس فلسفيًا مجردًا، بل يومي، ملموس، يطال تفاصيل حياة الفرد الشريف في عمله، بيته، محيطه، وحتى داخله.
—
*بين المثال والواقع*
لقد أصبح التمسك بالشرف – في كثير من الحالات – سلوكًا مكلفًا لا يكافئه المجتمع، بل قد يعاقبه. في بيئة يهيمن عليها الفساد، يصبح الموظف النزيه مصدر “إرباك” لزملائه المرتشين، ويُتهم بأنه “غير مرن” أو “يعرقل الإنجاز”. المرأة المحترمة في بيت رجل وضيع، تصون كرامتها وتربي أبناءها على القيم، لكنها تُحاصر بالإهانة وتُحمّل ذنب “فشل” العلاقة الأسرية . الطالب الذي يربيه ذووه على رفض الغش يُتهم بالغباء ويتفوق عليه الطلبة الغشاشون والتاجر الشريف يُستبعد من السوق لأنه من “قوم يتطهرون”.
غالبًا ما يشعر الشريف بالغربة وسط مجتمعه، حتى بين أصدقائه أو زملائه. إذ يُنظر إليه أحيانًا على أنه “معقّد” أو “مثالي أكثر من اللازم”، ويُستبعد من دوائر القرار لأنه لا “يفهم اللعبة”. هذا الإقصاء لا يكون دائمًا عنيفًا، بل قد يكون ناعمًا، مغلفًا بالشفقة أو الازدراء غير المعلن. وهكذا يتحول الشريف إلى هامش في مجتمعه، في حين يتصدر المشهد أصحاب الصوت العالي والمصالح المرنة.
بل وحتى في تفاصيل الحياة اليومية، يواجه الشريف ما يشبه العقاب بسبب التزامه. تأمل مثلًا سائقًا يحترم قواعد المرور: يتوقف عند الإشارة، يرفض أن يسير في الاتجاه المعاكس، ويُراعي المشاة، ومع ذلك قد يتعرض للمضايقة من قبل رجال المرور، أو يُغرّم ظلمًا، في حين يمر المخالفون بحرية لأنهم “يعرفون أحدًا” أو لأن الفوضى أصبحت عرفًا أقوى من القانون.
—
*خيانة القريب… وضريبة الشرف*
ومن أقسى تجليات مأزق الشريف في هذا العصر أن تُوجه له الطعنات ممن وثق بهم.
تأمل مثلًا رجلًا شهمًا، كريم النفس، يكتشف فجأة أن صديقه الأقرب هو غريمه الخفي! لم يدّخر في حقه معروفًا، وكان يعامله كأخٍ لا شريك فقط، يفتح له بيته وقلبه. لكن هذا الصديق، حين دارت عجلة المصلحة، لم يتردد في بيعه، أو تشويه سمعته، أو التخلي عنه في ساعة العسرة، وكأن كل المعروف والوفاء السابق لا وزن له. الشهم هنا لا يخسر فقط مالًا أو علاقة، بل يكتشف أن إنسانيته صارت نقطة ضعفه في عالم لا يعترف بالجميل.
وفي مشهد آخر لا يقل إيلامًا، نرى شريكين في عملٍ أو تجارة: أحدهما مستقيم، دقيق، يحترم القوانين ويتعامل بصدق، والآخر مخادع، لا يتردد في التزوير، والغش، والخداع. ومع الوقت، ينجح هذا الأخير في تضليل الزبائن والسلطات، ويُراكم ثروة على حساب استقامة شريكه. وحين تنكشف الأمور، لا يلقى الجزاء، بل ربما يُحتفى به باعتباره “ذكيا” أو “ناجحا”، بينما يُوصم الشريف بالعجز ؛ “النفشه” أو “قلة الحيلة”.
—
*العزلة الأخلاقية*
ما يزيد الأمر مرارة أن هذه الشخصيات – التي يُفترض أن تكون قدوة – تتحول إلى نماذج معزولة. يُهمَّش صوتها في الفضاء العام، وتُقصى من مواقع القرار، لأن ثقافة العصر لا تحتمل الصوت النقي. وهذا ما يُولد شعورًا عميقًا بالغربة لدى الشريف، ليس فقط عن محيطه، بل عن زمنه بأكمله.
*إعلام يجمّل القبح*
يُضاف إلى ذلك ما يقوم به الإعلام المعاصر من قلبٍ للمعايير، حيث يُقدّم الوصوليون والانتهازيون في صورة “الناجحين”، بينما تُطمس صورة الإنسان الشريف أو تُشوّه. فقد أصبح الكذب فنًّا، والتسويق للذات مهارة، وتقديم الحقائق مجرد خيار ثانوي. أما من يرفض التزييف، فلا نصيب له من الضوء، وإن كان أصدقهم وأخلصهم.
*أمل لا يموت*
ورغم هذا المشهد القاتم، فإن وجود الإنسان الشريف في العصر الحديث يبقى ضرورة روحية وأخلاقية. إنه الصخرة التي لا تذوب، والنور الذي لا يُطفأ، ولو بدا باهتًا. هو ضمير المجتمع الحي، وإن جرى تجاهله. هو البذرة الصامتة التي تُثمر في وقت لا يشعر به أحد، لكنها تحفظ النسل الإنساني من الإنقراض القيمي.
*حين يتحول الصدق إلى مقاومة*
في النهاية، إن مأزق الشريف اليوم ليس مأزق ضعف، بل مأزق اختيار: أن يبقى إنسانًا في عالم يُعيد تعريف الإنسان نفسه وفقًا للربح والخسارة. ومهما قلّ عدد الشرفاء، فهم لا يزالون يحملون عبء المعنى، وينحتون طريقًا لمَن بعدهم، ولو تحت الركام، إنهم ليسوا وحدهم وإن بدا ذلك، هم فقط لا يجيدون فن الظهور ولغة تسويق الذات.
بقلم: الحاج أحمد إديجبي
