اجترار التكرار وغياب الإحياء/ الولى ول سيدي هيبة
نواكشوط 15 نفمبر2019 (الهدهد م، ص)
“الوقوع باستمرار في الأخطاء نفسها، وانتهاج سلوكيات لا تأخذ بعين الاعتبار الدروس الواجب استخلاصها، تجعل من الصعب تجاوز التجارب السلبية والاستفادة منها”.
شنقيط رهينة المحبسين
على مرأى البصر، بدت لنا شنقيط في الأفق الذي ينتهي بعناق زرقة السماء مع صفرة الرمال الذهبية، على سهل ممتد فوق ثاني مرتفعات “آدرار” التصاعدية من بعد المرور فوق مرتفع مدينة أطار ارتقاء إليه من سفح “عين أهل الطايع”؛ شنقيط ذات الشهرة، التي وصلت مع القوافل الصحراوية أمصار المشرق، هي في واقع حالها ليست سوى قرية كبيرة لا مدينة بالمعنى الحضري المتعارف عليه، إذ لا شوارع معبدة بها تربط أجزاءها، ولا إشارات ضوئية تنظم حركة المرور فيها، ولا بنى تحتية وخدمية أو مؤسسات عمومية وخصوصية ذات بال منتشرة في أرجائها، ولا ورش معتبرة أو مصانع تعبر عن حركة اقتصادية نشطة تشد الأهالي إلى البقاء فيها، من المتعلمين وذوي الاختصاصات الفنية إلى البقاء فيها، وحيث هاجر البعض منهم إلى “أطار” والبعض الآخر إلى العاصمتين “نواكشوط” و”نواذيبو”، وجميعهم لا يعودون إليها إلا في موسم جني التمور “الكيطنة” أو عند حلول نسختها من مهرجان “المدن القديمة”.
وأما مسجدها القديم ومعلمتها التاريخية فلا يميزه عن بقية الدور المحيطة به – في تواضع المعمار وغياب الطابع المميز والعجز عن استنطاق الحجر واستغلال المخطوط – إلا عمره الطويل ومنارته الشبيهة ببرج قلعة حربية تثبت انتماءه للقرون الوسطى.
على الرغم من شهرة “شنقيط” وكثرة التذكير الرتيب على الألسن وفي الكتابات التي لا تعرف التحيين بدورها التاريخي أيام القوافل، تذكير يردده أصحابه كـ”الببغاوات” التي لا تعقل معنى لما حفظت بالتكرار.
وعد الرئيس
صحيح أن خطاب رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الغزواني قد حمل خلال أول نسخة في عهده، الميمون إن شاء الله، نبرة المتفهم بعمق لواقع المدن التي لا تتحسن أوضاعها ولا تعرف التطور من ناحية، والتاريخ العري ق الذي لا يحفظ عمليا من خلا ل الحفاظ على شواهد آثاره عمرانه ومخطوطاته. وقد ختم كلمته المركزة في بالتعهد كتابة تاريخ المدن بأحرف من ذهب.
نسخة المنعرج
صحيح أن المهرجان تضمن في نسخته هذه العديد من المحاضرات، ذات العناوين الكبيرة والمتعلقة بتاريخ المدن وأعلامها، تعاقب على تقديمها عدد معتبر من المحاضرين الأساتذة الجامعيين والباحثين الأكاديميين والموصومين بالاختصاص التاريخي والسوسيو أنثروبولوجي و.
وخلال عديد الجلسات التي ترأسها عدد معتبر هو الآخر من الشخصيات التي تحسب على الثقافة والبحث والاعلام من بينهم وزراء سابقون وشخصيات محسوبون جميعهم أيضا على الرمزية، وإعلاميون معروفون. ولكنها المحاضرات الفجة في أغلبها، الموصومة بطابع الارتجالية الصارخة في تراكيبها وأدائها، التي لم تقدم جديدا:
• في المعطى التاريخي لمختلف الحقب التي لم تتضح بعد مساراتها،
• ولا قراءات تتجاوز التكرار السقيم،
• ولا محاولات الطلي الجريء والفج على الثغرات والنواقص بالادعاء المفرط المطلق على عواهنه،
إلى التحيين بأدوات التقنين والتمحيص والاستنباط والاستشراف واستنطاق بؤر الغموض والشكوك والاختلاف.
وأما غير ذلك فقد أكدت التظاهرات أن المهرجان في غالب مساره ومعظم فقراته هو أشبه بـ”الكرنفال” منه إلى المهرجان، حيث طغيان:
– الموسيقي الصاخبة لعديد الفرق الضعيفة الأداء، أجنبية ووطنية من جميع المدن القديمة،
– الشعر المتدني المستوى والقليل الالتزام والتوجيه،
– العروض التقليدية الضعيفة المحتوى، العديمة القيمة والجمالية، والغائبة لغة الاستنطاق في رحاب استذكار التاريخ إحياء مدنه بكامل رمزيتها.
إنها الملايين من الأوقية التي تقاسمها الأفراد من الشعراء والمغنين والمحاضرين، تقاطروا على لجنة التسيير يقبضون التعويضات العينية بعد الأداء وأيه، ومن بين المصطفين للقبض كان:
– فقهاء
– زوراء
– أكاديميون،
– إعلاميون
– منعشون،
– شخصيات لها صفات متعددة،
ليعودوا إلى نواكشوط، جميعهم غانمين، على متن عشرات السيارات رباعية الدفع مؤجرة بملايين الأوقية ومزودة لأسبوع يزيد بآلاف اللترات من المازوت، يركبها فقط “المنتقون” من المدعوين دون سواهم من سواد الشعب الأعظم، عامة ومتعلمين يتوقون رغم عجزهم إلى الوقوف على آثار مدنهم التاريخية واستنطاق شواهد تاريخها؛ ملايين كان يجب أن يوجه الجزء الأكبر منها إلى إقامة منشآت باقية تدعم بنى المدينة وتخدم عملية الحفاظ على مكتباتها ولانتشال وتثمين كنوزها من المخطوطات النادرة.
ولكن خطاب رئيس الجمهورية تضمن تعهدا بخدمة التاريخ والحفاظ على إرثه المادي من خلال نظرة جديدة لا شك ستحمل علامات الترشيد للمال العام وصرفه بمنهجية وعقلنة فيما يثمر ويعيد للمدن ألقها ويكتب تاريخها بأحرف من ذهب.
بقلم : الولي سيدي هيبه