تقرير محكمة الحسابات 2022–2023… وثيقة رسمية تفضح التلاعب بمنظومة الصفقات العمومية في موريتانيا.

 

في التقرير السنوي الأخير لمحكمة الحسابات (2022–2023)، لا مجال للغموض.
اللغة رسمية، دقيقة، ودامغة. لكن بين السطور، يظهر وجه الفساد الإداري والمالي عاريًا، لا تخفيه صياغات “إجرائية” ولا تبريرات “استعجال المصلحة العام “.فالمحكمة، وهي أعلى هيئة رقابة مالية في البلاد، وثّقت خروقات ممنهجة لمدونة الصفقات العمومية، من وزارات سيادية وشركات عمومية، كان يفترض بها أن تكون القدوة في احترام القانون، لا منتهكيه.

وزارة الصحة: التفاهم المباشر بدل المناقصة

جاء في الصفحة من التقرير:
«لوحظ لجوء الوزارة إلى إبرام عدد من الصفقات بالتفاهم المباشر دون توفر الشروط المنصوص عليها في المادة 32 من القانون رقم 2010-044 المتعلق بمدونة الصفقات العمومية، وهو ما يشكل خرقًا واضحًا للقواعد التي تحكم المنافسة وشفافية الإبرام.»
بهذا الوضوح، تضع المحكمة يدها على واحدة من أخطر أبواب الفساد في المرفق الصحي: صفقات دون مناقصة، ودون مبرر قانوني، ودون منافسة. لقد تحولت قاعدة “الاستثناء” (التفاهم المباشر) إلى قاعدة سلوك إداري متكرر.
وفي كل مرة، تتبدد ملايين الأوقية تحت شعار “الاستعجال”، وكأن صحة المواطن مبرر كافٍ لخرق القانون بدل تطبيقه.

مديرية مشاريع التهذيب والتكوين: كفالات التنفيذ… معلّقة في الهواء

ورد في الصفحة من التقرير:
«عدم احترام أجل إعداد كفالة حسن التنفيذ خلال المدة القانونية (15 يومًا من تاريخ تبليغ الصفقة)، وهو ما يشكل خرقًا لأحكام المادة 51 من المرسوم رقم 2022-083 المتعلق بتطبيق قانون مدونة الصفقات العمومية.»
المعنى بسيط وخطير: عقود بملايين الأوقية تُنفّذ دون أي ضمان يحمى الدولة من الإخلال أو التقصير.
كفالة حسن التنفيذ هي خط الدفاع الأخير لحماية المال العام، وحين تُهمل، تتحول المشاريع إلى مغامرات غير مضمونة، لا يُحاسب عليها أحد. هذا الخرق لم يكن حادثة فردية، بل ممارسة مكرّرة تكرّس غياب الرقابة الداخلية.

شركة SNAAT: تجزئة الطلبيات للتحايل على القانون

تقول المحكمة في الصفحة:
«لوحظ لجوء الشركة الوطنية للاستصلاح الزراعي والأشغال إلى تجزئة بعض الطلبيات في مخالفة صريحة لأحكام المادة 4 من المرسوم رقم 2022-083، حيث تم تسجيل طلبيات متعددة في نفس التاريخ ومن نفس المورد، وهو ما يعد تحايلاً لتفادي العتبات القانونية للصفقات.»
هنا يظهر التحايل الإداري في صورته الكاملة: تقسيم صفقة كبيرة إلى طلبيات صغيرة كي تبدو “قانونية”.
لكن المحكمة كانت يقظة؛ فوثّقت التواريخ، والموردين، والمبالغ، مؤكدة أن ما جرى هو “تحايل منظم” على نصوص القانون.وهكذا، بدلاً من حماية المال العام، تتحول الإدارة إلى وسيطٍ بين الموردين والموازنات، في لعبةٍ قانونية مكشوفة.

جاء في الخلاصة العامة للتقرير:

«تكررت حالات خرق مقتضيات مدونة الصفقات العمومية في عدد من القطاعات دون اتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة، مما يطرح تساؤلات حول فعالية أنظمة الرقابة الداخلية وغياب المساءلة الإدارية.»
بلغة هادئة ولكن حادة، توجه المحكمة سؤالها الأكبر:من يراقب المراقبين؟
فإذا كانت المخالفات تتكرر في كل تقرير، وتعود الجهات نفسها إلى القائمة السوداء، فأين المحاسبة؟
الفساد هنا لم يعد مجرد تصرف فردي، بل نمط إدارة. نمط يستهين بالقانون ويستغل هشاشة المؤسسات لتمرير صفقات بأسماء رسمية ومحتوى فاسد.
مدوّنة الصفقات العمومية التي صيغت لحماية المال العام، أصبحت – وفق التقرير – نصًا يُخرق أكثر مما يُحترم.
القانون وُضع لضمان الشفافية، لكن الممارسة حولته إلى واجهة شكلية، تُرفع في الخطابات وتُسقط في التوقيعات.
ومع ذلك، يبقى الأمل في أن تتحول هذه الوثائق الرسمية إلى شرارة تحرك الرأي العام والقضاء المالي، لأن الفساد حين يوثّق ولا يُعاقب، يتحول إلى عرفٍ إداري يصعب اقتلاعه لاحقًا.

خاتمة: لا إصلاح بلا مساءلة

إن تقرير محكمة الحسابات ليس مجرد وثيقة حسابية، بل هو اعتراف رسمي بأن القانون يُخرق، وأن المال العام في خطر.
ما لم تتحرك الجهات التنفيذية والقضائية لتفعيل المساءلة، فإننا أمام دورة جديدة من الفساد المؤسسي، حيث يُصبح القانون مجرد ديكور إداري.
كما كتب أحد القضاة في الهامش:
«القانون لا يحمي المال العام إذا ظلت المؤسسات صامتة.»

مقالات ذات صلة