حين تتقدّم الدولة خطوةً إلى الأمام… وتنتظرها الإدارة بخطوةٍ مماثلة

 

في لحظات التحوّل الكبرى، لا تكون القرارات مجرّد إجراءاتٍ إدارية، بل رسائل عميقة في معنى الدولة وقدرتها على حماية نفسها من الداخل. وقرار مجلس الوزراء بإحالة الأسماء الواردة في تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022-2023 إلى القضاء، لم يكن حدثًا عابرًا في مسار التسيير العام، بل إشارة تحمل في طيّاتها مؤشراتٍ على توجهٍ جاد نحو ترسيخ قيم الإصلاح، وتوحي بأن عهد التساهل مع المال العام قد ولّى، وأن روح المساءلة بدأت تجد طريقها إلى الممارسة، لا بوصفها شعارًا مكرورًا، بل كقناعةٍ تتجسّد في القرار والفعل.

غير أن هذه الخطوة، على أهميتها، لا يمكن أن تُختزل في بعدها القضائي وحده، لأن الإصلاح الحقيقي لا يُختصر في إحالةٍ أو محاسبة، بل يقوم على إعادة بناء المنظومة التي سمحت أصلًا بوقوع الخلل. فالإحالة إلى القضاء تُعلن بداية الطريق، لكنها لا تمهّد لنهايته ما لم تُستكمل بإصلاحٍ إداريٍ يُعيد هيكلة بيئة العمل ويُغلق منافذ التسيّب من جذورها. وهنا فقط تتكامل العدالة مع الكفاءة، والمحاسبة مع بناء المؤسسات.

إن مكافحة الفساد هي الوجه الأول للعملة، أما الوجه الآخر فهو الإصلاح الإداري. إذ لا جدوى من تجفيف منابع الفساد المالي إن ظلّت البنية الإدارية عاجزةً عن تجديد دمائها وتثمين طاقاتها. فالخلل لم يكن وليد اليوم، بل نتاج تراكمٍ طويلٍ لاختلالٍ في المعايير، جعل التقدير أحيانًا أقرب إلى العرف منه إلى الاستحقاق، وكأن مكافأة الجهد لا تُقاس دومًا بمقدار العطاء، بل أحيانًا بمسافة القرب من الدوائر لا من الكفاءة. وهنا يبرز سؤالٌ هادئٌ لكنه عميق: أليس من حق من أعطى بصمتٍ أن يجد مكانه في لحظة الاعتراف؟

وعلى هذا الأساس، تبدو المرحلة الراهنة اختبارًا لقدرة الإدارة على التكيّف مع منطق الدولة الحديثة، التي لا تتعامل مع الإصلاح كحدثٍ مؤقت بل كمسارٍ دائم. فالإصلاح ليس إعلانًا موسميًا، بل عملية مستمرة تتطلب إرادةً سياسيةً تواكبها كفاءة تنفيذية، وفهمًا إداريًا يُترجم التوجيهات إلى ممارساتٍ يومية.

وفي مناخ الإصلاح الحقيقي، لا مكان لثقافة الاستثناء أو لفكرة أنّ بعض المواقع لا يمكن أن تُمسّ. فالدولة لا تُبنى على الأشخاص، بل على القيم والمؤسسات، ولا أحد مهما علا موقعه يشكّل استثناءً من منطق المرفق العام الذي يقوم على التداول والمسؤولية. فالإصلاح، في جوهره، لا يعرف الأشخاص بقدر ما يعرف الأدوار، ولا يحتفظ بالأسماء بقدر ما يحتفي بالكفاءة. وحين يسود هذا الفهم، تُصبح التسويات مدخلًا لتصحيح المسار لا لتجميل الواقع.

إنّ القرارات مهما بلغت شجاعتها تحتاج إلى إدارةٍ مؤمنةٍ بروحها، وإلى مسؤولين يرون في مواقعهم تكليفًا لا تشريفًا. فالإصلاح لا يتحقق بخطابات النوايا، بل بإدارةٍ تترجم الإصلاح إلى ثقافة عملٍ جديدة تُعلي من قيمة الجدارة وتعيد الاعتبار للكفاءة والتجربة. وهنا فقط يتحقق التوازن بين القرار السياسي والإرادة الإدارية، وتكتمل خطوة الدولة بخطوةٍ مماثلة من داخلها.

لقد آن أوان التمكين للعقل الإداري النزيه، وللكفاءات التي ترى في المنصب مسؤوليةً لا امتيازًا. فالإصلاح الإداري هو الحارس الحقيقي لثمرة الإصلاح المالي، وبدونه تبقى الجهود موجاتٍ لا تصنع تيارًا دائمًا، ومحاولاتٍ لا تتحول إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ راسخة.

ويبقى الأمل معقودًا على ما تحمله التوجيهات الرئاسية الجديدة من إشارات واضحة إلى جدية الإصلاح، وعلى ما تبدو عليه جاهزية الجهاز التنفيذي من استعدادٍ لمواكبة هذه التوجيهات بعملٍ متواصل، يترجم الرؤية إلى واقعٍ ملموس. فالإصلاح الإداري، الذي طالما شكل ركيزة النجاح لأي مسعى إصلاحي، لم يعد مجرد طموحٍ نظري، بل أصبح مسارًا يُرى أثره في المبادرات اليومية وفي تجاوب الأجهزة التنفيذية، ما يعكس أن الدولة قادرة على تحويل الخطوات الرمزية إلى حراكٍ مؤسسي مستدام. وهكذا، يكتمل التوازن بين القرار السياسي والإرادة الإدارية، ويُفتح الطريق أمام ثقافة عملٍ جديدة تُعيد الاعتبار للكفاءة والتجربة، وتجعل من الإصلاح ليس حدثًا عابرًا، بل أسلوب حياة مؤسساتي.
محمد لحظانه

مقالات ذات صلة