سان فرانسيسكو 1945 – قازان 2024 : رحلة التحول العالمي الكبير

 

يجتمع قادة “البريكس” في روسيا ويوجه رئيس الوزراء الهندي، أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، دعوة لبوتين لزيارة نيودلهي وتتهيأ دول المجموعة للمصادقة على عملة موحدة للتبادل البيني وتتهيأ كذلك لإعتماد نظام تحويلات مالية بين الدول الأعضاء ، فماهي دلالات الحدث من حيث المكان ومن حيث التوقيت ومن حيث
خريطة المشاركين ومن حيث المصالح المشتركة الجامعة وترابطها وما الذي يتوقع أن يحدثه هذا التجمع الكبير من تحولات في العلاقات الدولية والنظام الدولى ؟

أول خلاصة قد يخرج بها المراقب ، حتى قبل معرفة ما سيتمخض عنه المؤتمر، أن “الجنوب الكلي” قد انتفض ضد أمريكا فانقلب على عقوباتها ومذكرات توقيفها وحل ضيفا على عدوها اللدود في لحظة تواجه فيها هزيمة منكرة في أوكرانيا وتواجه تصدعا كارثيا في حلفها الأطلسي والأوروبي وتزايدا مذهلا في منسوب كراهية الشعوب لها والأمم…..

في مدينة “قازان” عاصمة الإمبراطورية الإسلامية المغولية التركية التي دامت قرونا ثلاثة ، يلتقي زعماء أكبر منتجي السلع في العالم بزعماء أكبر منتجي الطاقة فيه وممثلين عن أكبر أسواق العالم وأكثرها حيوية (الطبقة الوسطي في الصين وحدها تزيد على 400 مليون إنسان) وفي هذا المكان أيضا تجتمع دول تتحكم في أهم المضائق والممرات التجارية البرية منها والمائية في العالم وتكاد الدول الحاضرة تسيطر على نصف الكرة الشرقي لا يفصل بين دولها بلد يغرد خارج سرب المتمردين على أمريكا وينعقد المؤتمر في حاضرة إسلامية ويحضره مسلمون من كل أطياف الإسلام ومسيحيون من كل فرق المسيحية ويحضره هندوس وبوذيون ويحضره أقوام بلغات عدة وثقافات متنوعة زركشت الموروث الثقافي العالِم للبشرية يجمع بينهم جميعا شعور واحد أنهم ضاق ذرعهم بالهيمنة الغربية عموما والأمريكية خصوصا وأنهم جميعا يرفضون العبودية المالية للدولار ومؤسسات “ابروتن وودس” ونظام “اسويفت” وتجمع بينهم جميعا حاجتهم الملحة لنظام دولي مبني على القانون لا على القواعد ويجمع بينهم الخوف من أن تطال يد أمريكا أصولهم المالية و ودائعهم يوم تغضب لقول أحد منهم أو فعل ويخافون جميعهم أن ينالهم منها عقاب يوم يتعامل أحدهم بعملتها في مسالك لا ترضاها أو مع مغضوب عليه من الدول أو الكيانات المالية أو التجارية ؛ فمنذ عقود أصبح التعامل بالدولار خاضعا للقانون الأمريكي والمحاكم الأمريكية صاحبة اختصاص في البت في كل المعاملات الدولية التي تجري بالعملة الأمريكية ولم يعد الدولار وسيلة تبادل عالمي وإنما براءة اختراع أمريكية يتتبعها القانون الأمريكي في حلها وترحالها.

لم يقتصر اختصاص المحاكم الأمريكية على الدولار فحسب بل إن أي منتج صناعي تدخل في صناعته قطعة أمريكية مهما كانت أهميتها ضئيلة يصبح تسويقه ضمن اختصاص القضاء الأمريكي ولا يجوز تسويقه لأية جهة تطالها العقوبات الأمريكية ومن يفعل ذلك يتعرض للمساءلة وقد تصدر في حقه أحكام بغرامات مجحفة ..

سيقول البعض إن هذا التجمع غير منسجم من حيث أنظمة الحكم ومن حيث الثقافات ومن حيث درجة تشابك علاقات دوله مع العالم الغربي ، فبعض هذه الدول يسرع الخطى للتحرر من هيمنة الغرب ويملك القوة لذلك والبعض الآخر أكثر حذرا بسبب إكراهات اقتصادية أو مالية أو سياسية وهذا فيه الكثير من الوجاهة لكن مثل هذه العوائق لم تكن يوما عائقا أمام اندماج الدول في كيانات جامعة حين تتراءى لها مصلحة مشتركة أقوى من عناوين الفرقة……

صحيح أن الصين وروسيا بلدان كبيران متجاوران والجيرة عادة ما تكون سببا من أسباب التنافس المستمر وتخلق الكثير من مظان التعارض في المصالح وربما التصادم وصحيح أيضا أن الهند والصين لهما أجندات إقليمية مختلفة وبينهما بعض الوخز الحدودي المستمر وتحالفات إقليمية ودولية فيها تباين كبير وتعارض وصحيح أيضا أن منسوب الود بين إيران والسعودية (المرشحة للعضوية) ضعيف جدا والحال ذاته بين إيران والإمارات ولكن هذه الدول النفطية جمعتها منظمة “الأوبك” وتوحدت داخلها لأن المصلحة المشتركة داخل سوق الطاقة أقوى من الخلافات البينية الثانوية ولا تخلو علاقة بين بلدين من شد تارة ومن فتور تارات ومن صدامات مسلحة في بعض الأوقات لكن المصالح هي التي تحدد بوصلة العلاقات بين الدول وليس غيرها……

التنوع والتنافر أحيانا والتباين الكبير في المحددات الثقافية والدينية والتنافس الخشن والتاريخ المضمخ بالدماء لم يحل دون قيام الإتحاد الأوروبي كما أن حلف شمال الأطلسي يضم دولا لا يجمع بينها سوى الحاجة المشتركة إليه …..

تاريخ الغرب عموما خريطة رسمتها الحروب الأهلية والحروب البينية المدمرة والنزاعات الحدودية والنزعات التوسعية، فقد خلف النزاع بين ألمانيا وفرنسا ملايين القتلى في التاريخ القريب و بين اليونان وتركيا نزاع سيادي حول جزيرة قبرص وبينهما أيضا ملفات حدودية كثيرة وقديمة لا يلوح في الأفق القريب أمل في حلها بطرق سلمية…..وقد قبِل الحلف بعضوية اليونان رغم أنه منظمة عسكرية دفاعية “لا تقبل بعضوية دولة في نزاع مع طرف آخر ” ونزاع اليونان مع تركيا سابق للحلف !!!!

القوانين والنظم لا تعني شيئا حين تتعارض مع المصالح فالنصوص المنشئة لحلف شمال الأطلسي مثلا تقول إنه منظمة دفاعية لحماية الدول الأعضاء والعضوية مشروطة بتقاسم “القيم المشتركة، الديمقراطية ودولة القانون…..” والقرارات داخله تصدر بالإجماع كما هي حال القرارات داخل الإتحاد الأوروبي ولكن الدول الغربية الكبيرة ظلت ترفض قبول عضوية تركيا بحجة أنها “غير ديمقراطية” وأنها “لا تحمل القيم الغربية” وفي الوقت نفسه قبلت بعضويتها في حلف شمال الأطلسي يوم كانت السلطة بيد العسكر وما زالت إلى اليوم أبواب الإتحاد موصدة أمام الجار العثماني “غير الديمقراطي” وما زالت قواعد الحلف قائمة في الأناضول بأرض تركيا “الديمقراطية” !!!!!

الحروب غالبا ما تكون هي الصاعق الذي يحدث التغييرات الكبرى لأنها عادة ما تنتهي بمنتصر ومهزوم ولكن الحروب قد تكون بالسلاح وقد تكون صراع إرادات من خلال الثروة والمال وحين تتغير الموازين لأي سبب كان يتغير النظام الدولي وتتغير العلاقات بين الدول….فهل ثقل أمريكا في الإقتصاد العالمي عام 45 هو نفسه ثقلها في مطلع القرن الواحد والعشرين ؟ وهل ما يزال ثقل دول مجموعة “بريكس” في الإقتصاد العالمي عام 2024 كما كان يوم تكفلت أمريكا بإعمار أوروبا المدمرة وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولى ؟ وهل الأدوار التي كانت تقدر أمريكا أن تلعبها يوم لم يكن لها منافس في عالم المال والأعمال عام 45 ما تزال قادرة على لعبها في أيامنا هذه وقد تغير مركز إنتاج الثروة العالمية نحو الشرق ؟ وهل يمكن أن يبقى بلد مهيمن على أمم تطورت وأصبحت منافسا قويا له ؟

مَثَل من يقبل بهيمنة اقتصادية عليه وهو قادر على التحرر منها كمثل من يقبل باحتلال بلده وهو قادر على طرد محتليه….هي لعبة موازين والموازين في تغير دائب واجتماع “قازان” ينذر بتحولات عميقة ستلحق ضررا كبيرا بمركز الدولار في المعاملات الدولية وستلحق ضررا كبيرا أيضا بالإتحاد الأوروبي وسترسم معالم جديدة لعالم ما بعد الأحادية.

فما الذي يتهدد الدولار تحديدا من اجتماع “قازان” ؟ وما الذي يتهدد الإتحاد الأوروبي من منظمة “بريكس” ؟

الدولار هو العنوان الأبرز لقوة أمريكا الإقتصادية والمالية وما وصلت له هذه العملة من انتشار وسيطرة حصل على وقع الحروب فأصبح الدولار يتنفس بالحرب وتكاليف الحروب الأمريكية على دول العالم تمولها سيولة هذه الدول من الدولار وتمول أيضا الدٌَيْن الأمريكي الأضخم في العالم …فلا مبالغة إذن في القول إن أمريكا ، بفعل الدولار، تبني عظمتها وقوتها بلا كلفة وأي مساس بمكانة هذه العملة يعتبر تعريضا وجوديا بها…

نشات الولايات المتحدة بالحرب وتمدد نفوذها بالحرب وتتنفس بالحرب رغم أنها لا تملك غير جارين أولهما في الشمال انقلوساكسوني منفصل عنها وتابع لها في آن وجار لاتيني في الجنوب انتزعت منه كل ما يصلح من أرضه وأذاقت شعبه مر الذل والهوان….فلماذا إذن تبني أمريكا جيشا تقارب ميزانيته ألف مليار دولار وتبني 11 حاملة طائرات وتنشئ أساطيل ضخمة مرافقة لها ؟

لا تفسير لذلك سوى أن قدرتها على الإنتشار العسكري وسرعته هي أساس فلسفتها في دعم مركز الدولار واستمرار سيطرتها الإقتصادية والمالية والتجارية على العالم بترغيب من يرغب وترهيب من يمانع….

بدأ مسلسل تراجع “دَوْلَرَة” الإقتصاد العالمي منذ بعض الوقت وتعرض لضربة نجلاء كانت مقتله الأول يوم لم يعد العملة الحصرية لأسواق البترول العالمية ومقتله الثاني وقع حين بدأت كبريات الدول في مجموعة “بريكس” تستغني عنه في تبادلاتها البينية مما يقلل من الطلب عليه ويحمي المتعاملين بعملاتهم المحلية من غضب أمريكا ومقتله الآخر أن رديفه الأوروبي قد يتلاشى بسرعة وتعود كل دولة لعملتها خاصة حين ترى نجاح التبادلات البينية داخل مجموعة “بريكس” فلا تعود حاجة كبيرة ترهن أوروبا لأمريكا.

يوم يعم نظام التحويلات المالية الخاص بمجموعة “بريكس” كل معاملات دولها بديلا عن “سويفت” ويوم تعمم التبادلات البينية بعملاتها الوطنية، لا يستبعد أن تراجع الدول الأوروبية الكبيرة المزايا التي تجنيها من الأورو ومن فضائها الإقتصادي والتجاري ومقارنة هذه المزايا بالفرص والمزايا التي قد تجنيها يوم تعود لعملاتها الوطنية وتجرب تبادلا بينيا بالعملات المحلية مع فضاء “بريكس” الكبير…

ستدرك كبريات دول الإتحاد ، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، أن التبادل مع الصين وروسيا والهند وإيران والسعودية والإمارات بالعملات المحلية سيأتي بفوائد كثيرة أولها أن تتحرر هذه الدول من الأعباء الإقتصادية لدول أوروبا الشرقية التي فرضت أمريكا دخولها في الإتحاد وفرضت لها قوة التعطيل فأصبحت تعتاش على جهد وحيوية الدول الكبيرة داخل المجموعة وامتلكت أيضا نفس الثقل في توجيه السياسات العامة للإتحاد بحكم مبدإ الإجماع….

وثانيها أن تتحرر الدول الأوروبية من سيطرة نظام “سويفت” على الكثير من معاملاتها فتحمي مؤسساتها من المساءلة أمام القضاء الأمريكي (فقد غرٌَمَ الكثير من المؤسسات المالية والتجارية الكبيرة في أوروبا الغربية بعشرات المليارات من الدولار بتهم مخالفة بعض المساطر الأمريكية والتعامل مع دول تطالها عقوبات أمريكا…).

والفائدة الثالثة وهي الأهم أن هذه الدول ستجد الفرصة الذهبية لإستعادة سيادتها المالية والنقدية فيعود الفرنك الفرنسي والمارك الألماني وغيرهما عملات محلية لإقتصادات أوروبية نشطة تتبادل بها في أسواق الطاقة والسلع والخدمات مع عالم “بريكس” الفسيح وبعملات دوله المحلية وتحصل على المزيد من الحرية في اختيار الشركاء والمفاضلة بينهم…..حينها يكون مؤتمر “قازان” تحديثا لمؤتمر “سان فرانسيسكو” وتكون “بريكس ” نقطة البداية لإعادة صياغة ميثاق دولي يكون تعبيرا أكثر دقة وإنصافا لموازين القوى العالمية في القرن الواحد والعشرين…..
الدكتور محمد ولد الراظى

مقالات ذات صلة