الترجمة الرابعة والعشرون : شذرات من حياة أعلام موريتانيا…/ د. أحمدو ولد آكاه
نواكشوط.18مارس 2021( الهدهد .م.ص)
* الطالب أحمد بن اطوير الجنة الوداني الحاجي
اسمه ونسبه: اسمه “المصطفى الطالب احمد” حسبما تفيد بعض الوثائق الموجودة بخطه، ويرى البعض أن الطالب إنما هي لقب، وكذلك “المصطفى” فيشير الأول إلى ضرب من التواضع والحرص على الاتصاف بسلوك طالب العلم، بينما يكشف الثاني عن نوع من التكريم والاصطفاء.
وعلى العموم فهو ابن اطوير الجنة بن عبد الله بن أحمد صائم الذي ينسب إليه بطن “الصيام” من قبيلة إدولحاج (الحاجيين).
وأمه: منين بنت سيدي الهادي من بطن إدياقب المنتمي هو الآخر إلى قبيلة إدولحاج.
مولده ونشأته:
لا يعرف بالضبط متى ولد “ابن اطوير الجنة” لكنه توفى سنة 1265هـ ويذهب البعض إلى أنه عاش (120) سنة، وعليه فإن مولده سيكون في حدود 1145هـ على وجه التقريب.
نشأ في مجتمع معروف بالعلم، فقد أسس أجداده مدينة وادان سنة 356هـ وسميت بهذا الاسم؛ لأن بها واديين: واد من علم وواد من تمر.
وكانت “وادان” حاضرة علم ومركز إشعاع ثقافي، وقد عرفت بداية التأليف في بلاد شنقيط حيث ألف “محمد بن أبي بكر الحاجي الواداني” الذي كان حيا سنة 933هـ كتابه “موهوب الجليل شرح مختصر خليل”.
وكان بوادان على عهد المترجم له أربعون عالما في أربعين دارا متجاورة ناهيك عن العلماء في الدور غير المتجاورة.
وقد بدأ “الواداني” دراسته في سن مبكرة إذ تقول الروايات إنه كان ذكيا سريع التحصيل.
وكان والده مهتما به، لما أنس فيه من الموهبة وقوة الذاكرة فحفظ القرآن وهو صغير، وقرأ مختصر الأخضري ونظم ابن عاشر كما درس مبادئ النحو والصرف وأخذ مبادئ العقيدة أيضا، وقرة الأبصار في السيرة النبوية أخذا عن “السالك بن الإمام الحاجي” (ت: 1246هـ) وأخيه: “احمد سالم بن الإمام” (ت 1239هـ)، وكان الأول عالما جليلا صوفيا أخذ عن الشيخ سيدي احمد التيجاني مباشرة وكان الثاني فقيها نحويا منطقيا حسابيا وتوفي في مدينة فاس.
دراسته وتعلمه:
حفظ الرجل في مدينته أربعين نصا عن ظهر غيب ثم انتقل إلى “سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي” وقضى معه عشرين سنة في دراسة العلوم الظاهرة وسنتين في دراسة العلوم الباطنة (التصوف).
وقد انقطع “الواداني” للتعليم على هذا الشيخ: فلم يزر الأهل يوما، ولم يفارق الشيخ مرة؛ وهذا ما جعله يعترف بالجميل لهذا العالم مثنيا عليه في رحلته مرددا عبارات التنويه والتقدير.
وكان “الواداني” يتأسف على عدم تخصيص هذه الفترة التي تناهز ربع قرن من الزمن للتصوف مما يؤكد علو شأن شيخه في مقامات الصوفية ويبين الذوق الصوفي العميق الذي كان “الطالب أحمد” يتحلى به،وقد أخذ عنه الطريقة الشاذلية.
ونشير إلى أن “الواداني” نفسه ذكر أنه أخذ الشاذلية عن “الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله التوريني” عن أبيه “عبد الله التوريني” عن “سيدي أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي”.
تصوفه وزهده:
كان “الواداني” على درجة عالية من الزهد والصدق والورع ملازما للمسجد عظيم الاعتقاد في الصالحين، يحب التفاؤل دون تطير، فيعبر أحيانا عن “امحمد شين” وهو علم معروف بقوله “امحمد زين” تفاؤلا.
وقد بلغ “الطالب أحمد” من الزهد في الدنيا حدا لم يستطع معه بيعا ولا شراء ولم يرب الحيوان ولم يزرع، بل كانت وسيلته الوحيدة للمعاش والحياة اليومية الاتكال على الله عز وجل، فكان غنيا بالله وعبادته عن جميع الخلق وليا كاملا لله، لا يفارق المسجد إلا في أوقات الضرورة، ولا يعقد يمينا بل كان إذا أراد الحلف يقول: “الله راع وشهيد”.
ومن غرائب صدقه وشدة اعتقاده في قدرة الله تعالى تلك القصة العجيبة التي تنم عن إيمانه العميق وملخصها:”أن زوجته طلبت منه الإذن ذات مرة للخروج إلى حفل زفاف، فامتنع وتركته حتى خرج إلى المسجد ووضعت مكانها “مزود” (وعاء من الوبر)
وجعلت عليه ثوبا، فلما قدم من المسجد تفقدها فلم يجد إلا الوبر، فظنها صارت وبرا، فاتعظ من ذلك معتقدا أن ما جرى لها من قدرة الله وتصرفه في الخلق كيف يشاء، فأسلم نفسه إلى مضجعه حتى كان من الفجر، فخرج إلى المسجد، وعادت زوجته، فلما عاد ووجدها قال لها: قومي واحمدي الله كثيرا، إن ربك على كل شيء قدير، لقد كنت البارحة وبرا وأصبحت إنسانا”.
هذا ولم يشتهر “الواداني” بالشيخوخة رغم أنه كان مأذونا له في إعطاء الورد الشاذلي، وهذه الدرجة العالية من الزهد التي أشرنا إليها “جعلته يحتل مركزا مرفوعا في بلده كمرابط يعتقد أن له مكانه الخاص عند الله.
ويلاحظ القارئ لرحلة “ابن اطوير الجنة” أنه خصص قسطا كبيرا منها للجانب الصوفي فهي تكاد “تتحول إلى استعراض لآراء الأولياء الصالحين وتسجيل للكرامات والخوارق.
ومن مظاهر الحضور الصوفي في الرحلة الميل إلى زيارة الأولياء والصالحين وأقطاب التصوف في الفكر الشاذلي، والسعي إلى الأضرحة والقبور، فلم يبق عالم ولا ولي في جهة الشيخ إلا زاره والتمس بركته، وقد بدأ برجال “أغمات” مشيرا إلى أنهم مضرب المثل عند أهل المغرب، وزار الرجال السبعة المعروفين في مراكش.
وزار في “الإسكندرية” ضريح “أبي العباس المرسي” الذي التأمت حول قبته حضرة كبيرة يؤمها الناس، يقول: “وزرنا – والحمد لله- أولياء الاسكندرية كلهم، “أبو الحسن الشاذلي” و”البوصيري” الذي تشاهد عنده أرواح الشهداء، و”أبو العباس المرسي” الذي لا يزال الزوار عنده ليلا ونهارا رجالا ونسوانا حتى إنك لترى الشيخ الكبير في آخر عمره يأتي بالاستناد لقصد الزيارة.
أما في تونس فإنه يزور موضع خلوة إمام الطريقة الشاذلية منوها بفضله مثنيا عليه، يقول:”وزرنا المحل الساطعة أنواره الفالحة أسراره محل الشيخ الغوث الهامع الفرد الجامع سيدي أبي الحسن الشاذلي، محل مشهور عظيم ومقام كريم، وهو موضع خلوته المشهورة بالبركة، يقصده أهل “تونس” كلهم للزيارة يوم السبت: الشباب والكهول والشيوخ حتى إنك لتلقى الشيخ الهرم والعجوز الهرمة يتكلفان زيارته بالمشي بالعود بالمشقة العظيمة، وما ذلك إلا لما جربوه من عظيم بركته”.
وبالجملة فإن التفكير الصوفي يعتبر عماد هذه الرحلة بل شريانها ومادتها الأولى حيث كادت تتحول تجارب صوفية مسايرة ازدهار الحركة الصوفية في البلاد المغاربية يومئذ.
بقي أن ننبه إلى أن للشيخ زاوية رمزية في مراكش أسست بطلب وإلحاح من السلطان المغربي حيث توسل إليه بتلميذه “محمد الصابر”عله يشير إليه برأي سديد يربط “الواداني” بالمغرب ويشده إلى “مراكش”، غير أن “ابن اطوير الجنة” كانت تنازعه رغبة شديدة إلى الوطن، ولما تم الاتفاق على مشروع الزاوية قرر أن تكون في مراكش وبالذات جوار سبعة رجال وحرم الولي “سيدي ميمون الصحراوي”، فاشترى السلطان لهذا الغرض دارا واسعة بمال طيب، وهو جزية اليهود.
ولما اكتملت مراسيم افتتاح الزاوية أولموا عليها بشياه عديدة فأطعموا الناس وسقوهم، وجادت السماء بمائها، واستبشر أهل المدينة بالزاوية متحدثين عن يمنها وبركتها، وما إن تم أمر الزاوية حتى أخذ الشيخ في الارتحال إلى أرضه.
تلامذته:
بعد انتهاء الدراسة المحظرية التي أكملها “الواداني” على شيخه “سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي” تصدر للتدريس مؤسسا حضرة صوفية ومحظرة علمية، ولعل من أبرز تلامذته:
– محمد فاضل بن محمد الحاجي الذي أصبح وارثه الشرعي في التصوف فخلفه على قومه يربيهم على أوراد الشاذلية.
– محمد الصابر التاشدبيتي الذي رافقه في رحلته إلى الحج واشتدت الرابطة بينهما حتى تحولت إلى علاقة روحية وزمالة صوفية.
آثاره ومؤلفاته:
خلف “الواداني” آثارا عديدة لم يبلغنا أغلبها، لكن أبرزها الآثار التالية:
– فيض المنان في الرد على مبتدعة هذا الزمان، وسنتعرض لهذه الرسالة بالدراسة في محلها من البحث ـ إن شاء الله ـ.
– كتاب في التوحيد شرح ضمنه عقيدة “الطالب جدو بن الطالب مصطف القلاوي” (ق 12-13هـ)
– نظم قصير في المنطق أوجز فيه القواعد المنطقية.
– اختصار منظومة ابن شقرون في الطب تقتصر على المأكول والمشروب ببلده.
– رسالة في الرد على الرسالة القلاوية للشيخ “سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي”.
– رحلته المشهورة “رحلة المنى والمنة لكاتبها الطالب أحمد بن اطوير الجنة” وهي رحلة حجازية ذات صبغة صوفية وأدبية، وقد حققتها الطالبة: زينب بنت الطالب أحمد سنة 1993 بقسم التاريخ في جامعة انواكشوط، وترجمت إلى الإنجليزية.
– تأليف في التاريخ: عبارة عن حوليات تسمى”تاريخ ابن اطوير الجنة” حققه د.سيدي احمد بن أحمد سالم وهو مطبوع.
– الأجوبة المفحمة الكافية ومن تعنت كل متعنت شافية: وهو عبارة عن ثلاثة عشر إشكالا في مختلف المعارف وجهت إلى الشيخ وهو في طرابلس يقول: “اجتمع بعض المتعنتين من أهل طرابلس فألقوا إلى أسئلة تعنت وعناد لا تفهم … وأنا على جناح السفر فاستعنت بالله وأجبت تلك الأسئلة كلها، ولولا حرمة المراء والجدال لألقيت عليهم مسائل ينقضي عمر نوح ـ عليه السلام ـ ولم يقدروا لها على جواب.
وفاته:
توفي الطالب أحمد ـ رحمه الله تعالى- ثاني شوال من عام:1265 كما نص على ذلك ناسخ تاريخه.