الغزونة و إعادة بناء الاستقطاب السياسي
تتميز الأنظمة الديمقراطية التعددية عن غيرها من الأنظمة التوليتارية بظاهرة الاستقطاب السياسي بين الموالاة والمعارضة بغض النظر عن شكل هذا الاستقطاب ومستوى شدته الذي يتدرج صعودا وهبوطا حسب طبيعة اللحظة السياسية التي تمر بها الأمة.
وكثيرا ما يشتد الاستقطاب السياسي ليبلغ مستواه الحدي عند طرح القضايا الوطنية الكبرى وأثناء المنافسات الانتخابية الحاسمة، غير أننا نعيش اليوم واقعا مختلفا يحيل إلى تفرد مشهود، فلأول مرة، ونحن نخوض غمار انتخابات رئاسية مصيرية، نشهد تراجعا في حدة الاستقطاب السياسي وترتسم أمامنا في أفق الحدث بيئة انتخابية يسودها مزاج سياسي معتدل.
يطلق الكاتب الموريتاني البارز أبو العباس أبرهام على لحظة التفرد هذه، بزخمها السياسي الجديد، مصطلح الغزونة، ويرجعها ببساطة إلى إعادة تموضع لأغلبيات تاريخية كانت تغرد خارج سربها ثم وجدت فرصة سانحة للانخراط مجددا في تشكيله؛ غير أن كاتب مقال: “أمر الولي الغزواني” سيقتصر في تعريفه للغزونة على ذكر نتائجها في حين أن المطلوب هو تفسيرها بإيراد أسبابها وتسليط الضوء على الآليات الكامنة وراءها كظاهرة أي فعل الغزونة نفسه.
ترجع نظرة الكاتب الاجتزائية للظاهرة إلى مقاربة سوسيوسياسية تنزع إلى التبسيط وتحاول أن تفسر الظواهر بإيهام القارئ أنها بديهية وطبيعية، فالغزونة حسب هذا المنطق لا تعدو كونها تشكيل لجماعات من الأغلبية كانت في منفاها السياسي تحن إلى منزلها القديم ثم وجدت طريقا جديدا للولوج إلى كنفه.
إن فهم ظاهرة الغزونة يحتم علينا اعتماد مقاربة جديدة تتوسل أدوات التحليل المنظومي عند ديفيد إيستون لتشريح النظام السياسي ورصد الظاهرة في أبعادها وتجلياتها المتعددة كي لا نقف عند خلاصات متسرعة تكتفي بوصف النتائج دون ذكر الأسباب لتقرر في النهاية بعض الحذلقات القائلة إن الغزواني نفسه ليس أهم ما في الغزونة.
إذا نحن فتشنا في بنية النظام السياسي الموريتاني بمدخلاته ومخرجاته وقيمه فسنجد أن المتغير الوحيد المستجد هو، دون شك، ظاهرة الغزونة التي أطلقت دينامية سياسية جديدة أضعفت حدة الاستقطاب السياسي الشديدة وأعادت التوازن حول مركز ثقل ثابت وخلقت قيما وقواعد جديدة لإدارة النظام السياسي… فكيف أمكن لهذا التحول السريع أن يحدث؟
لقد كان لخطاب الترشح أبعد الأثر في هذا التحول حين وضع قواعد وأرسى قيما أعادت الحيوية للنظام السياسي ومكنته من استقبال مدخلات جديدة تمثلت في موجات هائلة من المناصرين لتتحول المطالب المتراكمة التي كانت تهدد بخنق سير العملية السياسية إلى دعامات يمكن توظيفها للفوز بالانتخابات والتأسيس لما بعدها.
تمثلت أهم قيمة سياسية جديدة حملها خطاب الترشح في التأكيد على أن العملية السياسية لن تكون بعد الآن لعبة صفرية: إما أن تفوز بها أو تخسر كل شيء؛ إذ تم رصد جائزة ترضية جديدة تمثلت في تعهد ذي معنى بإقامة أسس العدل لضمان الحقوق بغض النظر عن الانتماءات السياسية.
حمل خطاب الترشح، أيضا، ملامح مشروع وطني ينشد انجاز تحولات ” فما وصلنا إليه اليوم ليس نهاية المطاف، وما زال أمامنا الكثير مما ينبغي أن ينجز” لذلك تعهد المرشح بتحقيق “طموحنا المشروع في بناء مجتمع عصري” ومضى متسلحا بمنطق مؤسساتي مؤمن بالعمل التراكمي ليعترف لكل عهد بإنجازاته وفق نظرة تاريخية منصفة تضع الوطن على السكة الصحيحة.. سكة التصالح مع الذات والتاريخ.
خلاصة القول أن جملة من العوامل والمتغيرات، بعضها ذاتي يتمثل في السجايا الشخصية للمترشح والبعض الآخر موضوعي يتعلق بمشروعه الوطني الجديد، قد تضافرت لتنصهر جميعها في بيئة النظام السياسي مشكلة ما يعرف بالغزونة التي هي مصطلح جديد دخل القاموس السياسي للبلد مؤخرا ليطلق على جملة من التمظهرات والتجليات السياسية الدالة على حراك عابر للتشكيلات السياسية وشبه إجماعي داعم للمرشح محمد ولد الغزواني.
محمد.يحيى ولد محمد سالم