الفساد سرطان مستشر في أجهزة تنفس الأنظمة …!!!
نواكشوط 12 يوليو 2020 ( الهدهد . م .ص)
“كل سلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة..” والفساد هو الفساد.. تتسبب فيه اللوبيات.. و يحميه الساسة، و يعاقبه العدل إن وجد.. أما طرق مواجهته ومكافحته، فهي تختلف باختلاف فلسفات أصحابها.. فمثلا، يعتقد القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو Antonio Di Pietro -الذي أعلن الحرب على الفساد مطلع التسعينيات في إيطاليا ضمن عملية تحقيقات واسعة، عرفت بالأيادي النظيفة Mani pulite” “- بأن الفساد يدمر الدولة من الداخل، لذلك يجب تدميره هو من الداخل أيضا.. مُشبها الفساد بزواج المصلحة، الذي إن انتفت المصلحة فيه، بطُل الزواج، عندئذ يصبح الأحبة أعداء يدمر بعضهم بعضا..
بناء على ذلك، اختار القاضي أنطونيو دي بييترو، أسلوب المواجهة المباشرة، عندما قاد تحقيقات أفضت إلى اكتشاف تورط بعض السياسيين في قضايا رشوة وفساد على نطاق واسع في بلاده.. لكن ما خفي كان أعظم.. فقد استطاع القاضي رفع الستار عن شبكة فساد ضخمة على المستوى الوطني، تورطت فيها شخصيات من كل الوظائف والمستويات: وزراء، كبار موظفين من المدنيين و العسكريين، دبلوماسيون، رجال أعمال و زوجاتهم، إلخ..
آنذاك، اتخذ القاضي أنطونيو دي بييترو، قرارا حاسما وإن أعتبر حينها “انتحاريا”.. فأمر بتوقيف كل المتورطين مهما كانت مناصبهم، وقد شملت الاعتقالات 5000 شخص بينهم أكثر من 1000 من رجال الدولة و السياسة، بينهم وزراء في الحكومة.. و كادت الإعتقالات أن تطال رئيس الوزراء الإيطالي نفسه السيد بتينو اكراكسي، لكنه هرب سنة 1994 لاجئا إلى تونس، حيث قضى فيها بقية حياته إلى أن توفي سنة 2000 .
كان القاضي دي بييترو يعي جيدا بأنه يحارب دولة الفساد داخل الدولة.. صُدم المواطنون الايطاليون والرأي العام الوطني بسبب اكتشاف حجم الفساد وعمقه وتداعياته.. و خرجت مظاهرات عارمة إلى الشارع تدعم القاضي دي بييترو، و تعتبره بطلا قوميا.. فأصبح اسمه تتغنى به الجماهير في ملاعب كرة القدم، مع شعار “دي بييترو جعلتنا نحلم”..
تحول القاضي إلى أسطورة حية.. وهو -بالمناسبة- ما يزال حيا يرزق.. أصبح فيما بعد نائبا في البرلمان ثم وزيرا.. وهو حاليا يعمل محاميا دوليا.. سُئل ذات مرة كيف قام بتلك “المعجزة” و ذلك “الجنون”؟ فأجاب أنه اتخذ القرار و هو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمنا له.. لكنه فضل بقاء بلده وضحى بنفسه.. ويذكر بأنه قد اجتمع بمجموعة شباب من نخبة الشرطة، وأفهمهم بأن مصير البلد بأيديهم، وأنه لا مجال للخوف.. وهكذا بدؤوا عمليات اختراق واسعة لشبكات الفساد.. لإفساد زواج المصلحة بين الفاسدين..
نجحت عملية الأيادي النظيفة.. ودخل القاضي تاريخ إيطاليا، فبفضل جهوده ومثابرته ألغيت منظومة مختلة عمرها أربعون سنة.. وانهارت على يديه أحزاب إيطالية تاريخية مثل الديمقراطية المسيحية (DC) ، والحزب الاشتراكي الإيطالي (PSI) ، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الإيطالي (PSDI) والحزب الليبرالي الإيطالي (PLI).. وانتهت الجمهورية الإيطالية الأولى، التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، و أعلن عن بداية الجمهورية الثانية..
أما في فرنسا، فقد ظهرت مدرسة أخرى لمكافحة الفساد لكنها كانت مختلفة عن النموذج الإيطالي.. وقد تميزت بالطرافة والابتكار، بعدما ابتدع المُحقِّقٍ الصحفي المُخلص والشجاع، الذي هبَّ لنصرة وطنه وشعبه، أسلوبه الخاص في مكافحة الفساد.. إنه الطبيب الفرنسي “جان مونتالدو” Jean Montaldo، الذي صاغ عصارة تجربته وتحقيقاته الاستقصائية في سلسلة الكتب الجريئة التي ألفها مثل “ميتران والأربعون حرامي-1994″، و”أرجعوا النقود!-1995″، و”نهب الذهب الفرنسي- 1998″ و”لصوص الجمهورية-2001″، و”سوق اللصوص-2003″ و”رسالة مفتوحة إلى لصوص المالية-2009″،إلخ.. وهي كتب تحقيقات رائعة وشيقة، أنصح الشباب بمطالعتها..
كان”جان مونتالدو” يتسلل كل مساء إلى مقر الحزب الاشتراكي الفرنسي (الحاكم آنذاك) في شارع سولفرينو بباريس، ليفرغ سلال القمامة في أكياس بلاستيكية خاصة، قبل أن تصل إلى المكان فرق النظافة، ثم يذهب بها إلى شقة خصصها لفرز وإعادة تركيب وإلصاق أجزاء الأوراق المقطعة من وثائق الحزب.. وبهذه الطريقة استطاع الصحفي الاستقصائي “جان مونتالدو” -بعد أكثر من عام من الاجتهاد والمثابرة- أن يكشف بدقة أغلبية فضائح الفساد التي تورط فيها الحزب الاشتراكي الفرنسي، وأن يعيد رسم ملامحها مدعمة بالمعلومات والأرقام..
وقد أسهمت تلك الكتب الإستقصائية التي ألفها “جان مونتالدو” حول فضائح وسرقات المال العام التي قام بها الحزب الإشتراكي الفرنسي، في الإسراع بانهيار ذلك الحزب العتيد، أخلاقيا وشعبيا، خاصة بعد انتحار وزير المالية في الحكومة الإشتراكية آنذاك “بيير بريكوفوا”، وانتحار “فرانسوا دي كروسوفر”، المستشار الخاص والصديق الشخصي للرئيس ميتران اللذين يبدو أنهما كانا يشرفان في قمة الهرم على تدبير شؤون خلية التلصص..
يعيش “جان مونتالدو” مرتاح البال، وقد بلغت كتبه شهرة عالمية، و حققت أرقام مبيعات عالية.. ولم يتجرأ أحد -ممن تعرض لفسادهم في كتبه- على رفع قضية ضده في العدالة، سوى رئيس مجلس إدارة شركة فيفندي Vivendi الشهيرة، السيد جان ماري ميسييه، الذي اشتكاه لدى العدالة بسبب ما ورد بحقه في كتاب جان مونتالدو “رسالة مفتوحة إلى لصوص المالية.. لكن المحكمة قضت لصالح الكاتب، بل وغرمت خصمه بدفع خمسة آلاف يورو كتعويض له ولناشره..
السؤال المطروح هو أين يتموقع أهل الخيام حاليا – بعد تسرب مصفوفة الأسئلة التي كانت لجنة التحقيق البرلمانية ستواجه بها الرئيس السابق- حول ما أشيع عنه من فساد خلال العشرية المنصرمة والذي غالبا ما تضيع فيه الحقيقة بين متاهات المبالغة والخيال..
فَهل نحن أقرب -في مجال محاربة الفساد- إلى مدرسة القاضي الإيطالي أنطونيو دي بييترو؟ أم إلى أسلوب المحقق الإستقصائي الفرنسي “جان مونتالدو” ؟
منقول