اللحمة الإجتماعية ورهانات الوحدة الوطنية في موريتانيا “ح3”
نواكشوط 09 يوليو 2020 ( الهدهد .م. ص)
يتناول الاستاذ الجامعي محمد الراظي ولد صدفن في الحلقة الثانية من هذه المعالجة للحمة الٱجتماعية بين مكونات الشعب الموريتاني بإسهاب وتفاصيل مؤصلة ومعتمدة على مراجع تاريخية مرحلة دخول المحتل الى البلد محاولاته المعلنة تاروة من خلال تصرفات واضحة، وغير معلنة من تحت الطاولة لتمزيق وحدة المجتمع وشق صفه .
وقدباءت جميع تلك المحاولات بالفشل وظل كل مواطن على أديم هذه الأرض من “الزنوج والبيظان” يضع يده في يد الٱخر.
وفي الحلقة الأخيرة من هذا المقال يتحدث الكاتب عن مرحلة شهدت الكثير من المد والجزر، حاول فيها بعض السياسيين النيل من لحمة المجتمع وخلق جو من التوتر بين مكوناته لكن هيهات هيهات فيقول في مرحلة ما بعد الاستقلال :
٣- مرحلة مابعد الاستقلال
لقد واجهت الدولة الموريتانية بعد حصولها على الاسقلال تحديات مختلفة ومتشعبة شملت جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها. وقد مثل وضع إطار تنظيمي ومؤسسي للدولة المستقلة اهم انشغالات الحكومة آنذاك التي انصبت جهودها في إقناع الموريتانيين جميعًا بضرورة الولاء التام لهذا الكيان السياسي الجديد، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية على حساب الولاءات والانتماءات القبلية والفئوية الضيقة وإرساء دعائم دولة القانون والعمل على تقوية أجهزة الدولة.
ونظرا لماتم تحقيقه في هذا الصدد من تنامي الوعي الداخلي بأهمية التضامن والتماسك بين مختلف مكونات الشعب وصيانة مكاسب الاستقلال خصوصا بعد الطاولة المستديرة التي عقدت في يونيو ١٩٦١م فان ذلك لم يمنع الدولة الناشئة من مواجهة التحديات الناجمة عن تطبيق الاصلاح التربوي الجديد الذي اعتمدته السلطات والقاضي بإلزامية اللغة العربية في المناهج الدراسية .
وقد اثار هذا الإجراء حفيظة الطلاب الزنوج الذين راوا فيه سياسة عنصرية منتهجة من طرف الحكومة وهو ما طرح للمرة الأولى وبشكل جدي إشكالية الهوية الثقافية لكل المكونات والسبل الكفيلة للتعايش بينها.
وتجاوبًا مع هذه الوضعية سارعت الحكومة إلى تشكيل لجنة عهد إليها بدراسة أنجع السبل لتطوير اللغات الوطنية وإدراج تدريسها ضمن المقررات الدراسية وبذلت جهودًا كبيرة في هذا المسعى ، إلا أن انقلاب ١٩٧٨م حال دون وصول هذا الملف للنتائج المرسومة.
ونتيجة لذلك فقد ظهرت عدة تنظيمات زنجية مثل الحركة الشعبية الافريقية في موريتانيا ( mpam) ومنظمة الدفاع عن مصالح الزنوج في موريتانيا ( adinam ).
وخلال الثمانينات تأسست جبهة تحرير الأفارقة الموريتانيين ( flam ) .
إضافة الي ذلك فقد جاءت أحداث ١٩٨٧م اثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها بعض الضباط الزنوج لقلب نظام الحكم بالقوة العسكرية وأحداث ١٩٨٩م بين موريتانيا والسينغال التي أدت إلى مواجهات عرقية للأسف عمت تراب الدولتين والتي سقط خلالها عشرات الضحايا من الشعبين لتزيد من تعقيدات هذا المشكل.
وفي مجال تحقيق العدالة الاجتماعية، فقد مثل ملف لحراطين ( اي العرب السمر ) همًا كبيرا بالنسبة لحكومة الاستقلال التي جعلت من ترقية الفئات الهشة من أولويات سياستها الاقتصادية والاجتماعية الرامية الي تحسين الأوضاع المعيشية لهذه الفئة والقضاء على ظاهرة العبودية ومخلفاتها.
وفي هذا الإطار ، فقد شيدت الدولة خلال الستينات العديد من السدود والآبار لفائدة تجمعات أدوابة، وشجعت التمدرس في أوساط هذه الفئة ،حيث لم تتجاوز نسبته عند الاستقلال خمسة بالمائة.
لقد تسببت أزمة الجفاف التي عمت جميع التراب الوطني خلال أواخر الستينات وبداية السبعينات في تدهور الاقتصاد الريفي المعتمد أساسا علي الزراعة وتربية الماشية ونجمت عنها موجة نزوح كبيرة من الأرياف إلى المدن بحثا عن ظروف حياة أفضل.
وحسب اعتقادي فإنه اذا كانت هذه الأزمة قد قوضت أسس النظام الاقتصادي التقليدي الذي كان حاضنا ومشجعا لممارسات الاسترقاق ، فإنها زادت إلى حد كبير من هشاشة هذه المجموعة التي كانت تمثل الأغلبية الساحقة من سكان مدن الصفيح التي تشكلت حول المدن الكبري وفي أطراف العاصمة أنواكشوط.
لقد أدت هذه الهجرة إلى زيادة أعباء الدولة الوليدة التي لم تكن اصلا مهيأة لمواجهة مثل هذه التحديات، في وقت استنزفت فيه حرب الصحراء الغربية كل الموارد المخصصة للتنمية وهو ما أضعف من فاعلية وأداء السلطة المركزية التي كانت عاجزة عن التجاوب مع حل المشاكل المطروحة.
وخلال فترة الثمانينات، صدرت قوانين إلغاء الرق ، غير أنها لم تحظ بٱجراءات مصاحبة تستهدف القضاء النهائي علي مخلفات وتوابع هذه الظاهرة اي غياب برامج تنموية وسياسات إقتصادية ذات مغزي تمكن من تحسين أوضاع الحراطين المعيشية.
لهذه الأسباب فقد نشطت نخب سياسية وحركات مدافعة عن حقوق الحراطين تطالب بمشاركتهم بصفة واسعة في الحياة السياسية ،من ابرزها حركة الحر.
وفي نفس السياق، ظهرت على الساحة السياسية خلال مرحلة مابعد الاستقلال حركات قومية وعروبية تطالب بتعريب الإدارة وتؤكد على الهوية العربية والاسلامية للبلاد وتدعو إلى إشراك عنصر البيظان الذي يمثل الأغلبية الساحقة من الشعب حسب وجهة نظرها في جميع إدرات الدولة وفي دوائر صنع القرار.
كما تأسست حركات ذات توجهات إسلامية واخري تقدمية يسارية.
وفيما يبدو فإن كل هذه الحركات شاركت وبفعالية في الحراك السياسي خلال العقود الاربعة الماضية واستخدمت جميع المنابر الإعلامية والثقافية والنقابية والطلاببة للتعريف بوجهات نظرها في مجمل القضايا الوطنية.
وقد احتدم هذا الحراك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي مع تدهور الوضع الاقتصادي للدولة بسبب تراكم العجز في ميزان المدفوعات وتنامي المديونية الخارجية و ارتفاع مستويات الفقر في الاوساط الاجتماعية الهشة وزيادة معدلات البطالة وتراجع دور القطاع الصحي وتدني مستوي التعليم وضعف الولوج الي الخدمات العامة وانتشار سوء التسيير والمحسوبية وفساد الإدارة وغياب الحكومة وهي سمات أساسية وعناوين بارزة لإدارة الشأن العام في البلد خلال العقود الماضية.
وأمام استمرار الوضع علىط ماهو عليه خلال العشرية الماضية دون تغيير يذكر و تزايد خطابات الكراهية والعنصرية المقيتة التي أصبحت تهدد اللحمة الإجتماعية والسلم الأهلي ،فقد بات من الضروري القيام بجهد إصلاحي عبر تبني سياسات ملائمة ومعقلنة لمواجهة هذه التحديات الجديدة،وهذا ما أدركه مبكرا فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي جعل من كسب رهان تحقيق الوحدة الوطنية ركيزة أساسية من ركائز برنامجه الانتخابي.
وفي هذا الاطار، فاننا نعتبر ان خطاب الطمأنة الذي وجهه سيادته بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية لمختلف أنواع الطيف السياسي في البلاد واللقاءات التي خص بها معظم الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين والشخصيات المحورية الوطنية يمكن البناء عليها للمضي قدمًا في بلورة حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع من أجل وضع التصورات والحلول الناجعة لجميع المشاكل المطروحة وفي مقدمتها توطيد اللحمة الاجتماعية الذي هو الشرط الاساسي لتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة.
ومن أجل بلوغ هذا الهدف فإننا نوصي بما يلي:
– التأكيد علي أهمية تحسين الأوضاع المعيشية للفئات الهشة، ولذلك فان إنشاء وكالة تآزر تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح ويجب دعمها بكل الموارد اللازمة لتحقيق اهدافها ،
– زيادة الإنفاق الحكومي علي البرامج الاجتماعية،
– تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء من خلال العمل علي تطوير الانتاج في المجالين الزراعي والرعوي،
– خلق الثروة من خلال تنويع الاقتصاد وزيادة الاستثمار في القطاعات الحيوية ،
– إيجاد نظام موحد للقيم مع التركيز على المشتركات الثقافية والحضارية لأن الثقافة تعتبر مصدر قوة دافعة لاحداث التماسك والترابط داخل المجتمع وهي تؤثر في سلوك الفرد وقيمه السياسية وبالتالي تلعب دورًا رئيسا في تحقيق الوحدة
– تفعيل التواصل بين الدولة ومواطنيها وضمان تمثيل جميع المكونات في جميع مؤسسات الدولة وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القضاء وفي الولوج إلى الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والماء والكهرباء وفي مجال التشغيل ،
– إقامة نظام تربوي قوي وموحد متفق عليه من طرف الجميع يراعي خصوصيات البلد الثقافية والحضارية،
– إعادة الاعتبار للمدرسة الجمهورية الجامعة والتي أثبتت في الماضي نجاعتها في تعزيز التمازج بين الشباب من جميع المكونات ولعبت دورا محوريًا في تربية الأجيال على التشبث بالهوية الوطنية من خلال التمسك بالرموز الوطنية وحب الوطن وتقوية الولاء له في أنفسهم ،
– التأكيد على صيانة الحريات الفردية والجماعية كباعث اساسي لتجذير الديموقراطية التعددية التي هي الحل الوحيد الضامن للحقوق المدنية والسياسية لمختلف فئات الشعب،
– التصدي لكل الفتن الداخلية من خلال سن تشريعات تجرم كل من يتعرض للوحدة الوطنية بالقول او الفعل وعدم التساهل مع كل التصريحات التي تدعو إلى التمييز بين المواطنين وترفع شعارات الطائفية والعنصرية والجهة مهما كان مصدرها ،
– تجاوز إشكاليات الماضي بكل تعقيداته والنظر إلى المستقبل من طرف الجميع بروح التسامح والتفاؤل لأن الوطن لايمكن ان يظل حبيسًا لموروثه التاريخي، وهنا فإن الدولة مطالبة بتقديم كل اللضماننات اللازمة من اجل انطلاقة تنمية شاملة ومستديمة .
ومن أجل مواكبة هذه الإصلاحات يبقي دور الإعلام في التعبئة حول أهمية وتقوية الولاء للدولة ومحاربة كل الأفكار الطائفية حاسمًا وذلك بواسطة تفعيل دور الإذاعات الجهوية التي تلامس هموم المواطنين ويتفاعلون مع برامجها المختلفة التي تتناول أهم قضاياهم التنموية.
هذا علاوة على الدور الذي يجب ان يقوم به العلماء ورجال الدين وقادة الرأي وسائر نخب البلاد السياسية والثقافية في الحث على العمل بقيم العدل والمساواة والتعاون بين جميع أفراد المجتمع في كنف دولة القانون والمؤسسات.
ويبقي الرهان الأكبر معقودا على الله اولا وعلى رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي جعل مصلحة البلد العليا فوق كل الأعتبارات الطائفية والعشائرية والعرقية والجهوية والمصلحية وهو ما يؤدي في النهاية إلى مساندته من طرف كل الشعب والألتفاف حول مشروعه المجتمعي الذي سيحقق اللحمة الأجتماعية المطلوبة لإقامة الوحدة الوطنية المنشودة .
بقلم : د . محمد الراظي ولد صدفن استاذ بجامعة نواكشوط العصرية