اللحمة الإجتماعية ورهانات الوحدة الوطنية في موريتانيا” ح2″
نواكشوط ، 08 يوليو 2020( الهدهد .م .ص)
*ركز الباحث والأستاذ الجامعي د .محمد الراظي ولد صدفن في الحلقة الأولى من هذا المقال الأكاديمي على إبراز مرحلة مهمة من تاريخ التعايش المبني على التسامح وحسن الجوار بين مكونات المجتمع الموريتاني في هذا الحيز الجغرافي الذي شكل إطارا جامعا لسكانه على أسس من القيم المثلى.
وذلك قبل دخول الاستعمار الذي غزى موريتانيا في مطلع القرن التاسع عشر ، مبينا أن المرحلة
التي سبقت دخول الأستعمار كانت فيها موريتانيا محكومة من طرف إمارات تتولى كل إمارة منها السيطرة والنفوذ في القطعة الأرضية التي تتحكم فيها .
بيد أن الأمر بدأ يتغير بعد دخول المستعمر الذي اعترف بهذه الإمارات وتعامل مع أمرائها لضمان مصالحه التجارية ، إضافة إلى العمل على بسط نفوذه من خلال استخدام الوسائل لنشر ثقافته ضمانا لتحكمه في المنطقة، لكن المقاومة الثقافية كانت قلعة حصينة في وجهه واشحذت همم الرافضين له ودفعت بهم إلى حمل سلاح المقاومة العسكرية التي واجهته بشراسة من جميع مكونات المجتمع فيقول الكاتب في مرحلة دخول المحتل الفرنسي :
٢ مرحلة الاستعمار لقد بات من المعروف أن السياسة التي انتهجتها الإدارة الاستعمارية في
موريتانيا هي في الاساس سياسة احتواء politique من assimilation ترتكز علي العامل الثقافي في تحقيق مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. ولهذه الأسباب فان نظام المدرسة الاستعمارية الذي انتهجته منذ البداية يهدف الي تحقيق هذه الغاية عبر اختراق البناء الاجتماعي الذي كان سائدا. ولتحقيق أهدافها ، قامت سلطات الاستعمار بتطبيق سياسة انتقائية واضحة المعالم من خلال إعطاء الأولوية لتنمية الجنوب علي حساب الشمال والسكان الحضر علي حساب السكان الرحل والزوايا في مقابل حسان والزنوج في مقابل البيظان وهو ما أسمته سياسة الأجناس politique de race. ولم تقتصر هذه السياسة التمييزية على البعد الإجتماعي بل شملت جميع المجالات الأخري .
ففي مجال التعليم تم تهميش المدارس الخاصة بالسكان البدو الرحل وأعطيت الأولوية للمدارس الحضرية في عاصمة المستعمر وكذلك المدارس الجهوية في عواصم الدوائر الإدارية الأستعمارية. كما طالت سياسة التمييز المجال الضريبي، حيث التفاوت الواضح بين الضرائب المفروضة على مواشي الزنوج، وتلك المفروضة على المواشي المملوكة من طرف البيظان.
كما تعدت ذلك لتطال التوظيف في الإدارة والولوج ٱلى الخدمات العامة في مجال تشييد البنى التحتية.
وبالرغم من سلبية هذه السياسة التمييزية الواضحة الهادفة إلى تمزيق المجتمع والنيل من وحدته الثقافية والحضارية عبر ترسيخ ثقافة الأجنبي وترسيم لغته بهدف بسط نفوذه في البلاد ، فإنها قوبلت برفض قاطع من المؤسسة الأجتماعية مدعومة بمواقف حازمة من رجال الدين في وثبة تضامنية غير مسبوقة اعتبرها المؤرخون شاهدًا حيا على قوة القواسم المشتركة بين المكونات الموريتانية وعلى فعالية دورها التضامني في القضايا المصيرية للأمة.
وتعتبر فتاوي المختار ولد ابلول في لبراكنة الهادفة إلى مقاطعة النصاري ومدارسهم ودعوة محمد العاقب بن ما يابا في اركيبة عدم التعامل معهم والهجرة في وجههم وإعلان الشيخ حماه الله في الحوض الجهاد ضدهم أمثلة حية.
هذا علاوة على الدور الذي لعبه الحاج محمود با رحمه الله في كوركول بعد عودته من الحجاز سنة ١٩٤١ وتاسيسه مدارس الفلاح المناهضة للأستعمار و ثقافته.
وقد ساهمت هذه المدارس في ترسيخ علوم اللغة العربية والتعاليم الإسلامية في جزء كبير من القارة الٱفريقية.
وشكلت توجهات الحاج محمود با الإصلاحية إزعاجًا كبيرًا لسلطات الأستعمار ودفع ثمنًا باهظًا بسبب مواقفه الوطنية المعلنة.
ولاشك أن كل هذه الجهود الوحدوية أضرت الى حد كبير بالمشروع الأستعماري في موريتانيا وكانت عاملًا حاسما في إخفاق سياسته التعليمية. ففي سنة ١٩٥٣م اشار بيير مسمير Pierre messmer والي موريتانيا إلى الإخفاقات التي عرفها النظام التعليمي الفرنسي نتيجة للمعوقات الكبيرة المتمثلة في شساعة البلاد والطبيعة البدوية لأغلب سكانها وأخيرا الفتاوي والحجج الرافضة لهذا النوع من التعليم …
ويمكن مرد ذلك إلى أن المقاومة الثقافية كانت متشبثة قبل كل شيء بطابعها الديني، معتبرة أن القبول بالتعليم الفرنسي من حيث المبدأ هو قبول باطباع الفرنسيين وثقافتهم ومعتقداتهم وهو مايتناقض مع مبادىء الدين الاسلامي الذي يشكل الهوية الجامعة لكل الموريتانيين على اختلاف مشاربهم واعراقهم.
ومع ذلك فإنه لابد من الأعتراف بأن سياسة الاستعمار الثقافية وإن كانت لم تحقق النجاح المطلوب، فإنها افرزت عقلية جديدة وواقعا معيشيًا جديدا وتركت بصماتها واضحة علي المشهد السياسي والثقافي في فترة ما بعد الاستقلال.
بقلم : د. محمد الراظي ولد صدفن الاستاذ بجامعة نواكشوط العصرية