بلقيس تنشر قصة عن مدرسة ابتدائية على موقع الهدهد. ..!!
في عيدها أتذكر:
” سيدتي فاطمة”
كان قسم بنات رابعا في السلم الابتدائي، تتراكم على بساطه الذي تآكل تحت سياط الأيام مئة ونحو العشرين من التلميذات كلما اكتملت طقوس الثامنة صباحا .. يدلف المعلم عادة على وقع زفة تتفاوت بين الزغاريد والكلام النابي و ضحكات مكتومة تفرغ فيها “المؤدَّبات” نَفَسا من جموح ليس له أن يكون.
مكث الفتى فترة يجاهد لضبط قسم تنتفي عن واقعه جميع مقومات التربوية.. كم بشري هائل “مسردن” داخل مكعب لا يكسر رتابة ألوان جدرانه البائسة إلا حكم وأدعية “تلاميذية”. لا أعرف كم مضى من الوقت في رحلته القاسية تلك صحبتَنا، لكني أعرف أنه فشل في الحصول على “دقيقة صمت” فكان تأبين مهمته كمدرس لنا صاخبا جدّ صاخب.
ذات “ثامنة”.. والضجيج يتصاعد كعادته محملا برذاذ قصة مسلسل مدبلج تجود به قيلولة إحدى القنوات، وجدل آخر في إحدى زوايا القاعة يشرف على التحول إلى عراك.. كان أحدهم لدى الباب.. لم يتغير شيء فالقادم المتوقع في ذلك التوقيت لا يملك شيئا لتغييره، لكن الوقوف استمر فترة أطول من المعتاد.. حاجبا خلفه قسطا من أشعة الشمس هو نصيب القسم من الحياة..
خفتت الأصوات تدريجيا قبل أن تتلاشى على وقع خطوات تتقدم باتجاه كرسي المعلم.. خطوات سريعا ما اكتشفت العيون الحائرة أنها لسيدة.. نعم سيدة!
سرى همس بين الفتيات، تساؤلات تحجب جسا مبكرا لظرف جديد.
على الطاولة وضعت السيدة حافظة أوراق قبل أن تفتحها وتستخرج دفترا وكتابا وبضع أدوات.. التقطت من بينها طبشورا وجلست على الكرسي بمواجهتنا.. عاد الصمت مطبقا.. قبل أن تلقي “سيدتي” التحية، ويتسابق الجميع لردها.. جرعة ضجيج مؤقتة امتصتها الجدران سريعا، ثم ساد الهدوء مجددا.
تعريف مقتضب جدا قدمت به نفسها ثم بدأت تقديم الدرس.. وكان رائعا! و تفاعل معه القسم بحماس غريب.
مرت الأيام سراعا رفقة “سيدتي” وتغير سلوك القسم جذريا..
مرة، بعد فترة من قدومها استضاف قسمنا طاقم المدرسة في درس نموذجي، كان من بين الحضور معلمنا الذي عرفنا أنه تبادل الأقسام مع سيدتي، وأثناء تحضيرها لتقديم الدرس كان المعلم يدور بعينيه بين تلميذاته سابقا .. ثم قال مشدوها “ما شاء الله .. لا أسمع إلا صوت الذباب”!
كانت تلك المعلمة تملك حضورا مهيبا و مستوى رفيعا، هزمت عبرهما ظروف عمل في منتهى القسوة.. وكانت سنتها تلك من أحسن سني دراستي تحصيلا ورغبة في التحصيل.
بلقيس بنت اسماعيل