
رد موضوعي على بكار انكيدى …/ بقلم : محمد ولد الراظي
اخي العزيز بكار انكيدى
السلام عليكم ورحمة الله
طالعت كغيري من رواد هذا الفضاء رسالتكم القيمة جدا والمفيدة جدا والتي تطرقتم من خلالها لقضايا شائكة ومعقدة تحتاج تبيانا وتفصيلا قد لا يسعه الوقت ولن يستكمل جوانبه رد واحد ولا مقال واحد في فضاء تفاعلي لكن ذلك لا يمنع من المشاركة في انعاشه….
ابتداء أود التذكير أن لا أحدا من القوميين العرب ولا من العرب غير القوميين في هذه البلاد يَقدر أن ينكر دور الزنوج الموريتانيين بالأمس واليوم في نشر الإسلام في المنطقة ونشر الثقافة العربية واللغة العربية والحرف العربي فيها ولا يمكن لأحد أن ينتقص من دورهم في محاربة الإستعمار وثقافته ولم يقل أحد يوما إن لهم موقفا سلبيا من اللغة العربية، ثم إن اللغة ملك للناطقين بها وهؤلاء كانوا ينطقون باللغة العربية ويكتبون ويتدارسون بها ويتراسلون ، فهي لغتهم ووعاء ثقافتهم ومطية نشرها والتعريف بها ، لكن الزنوج يختلفون عن الحركات السياسية الزنجية وحركة “افلام” وما سبقها وما تفرع منها حركات سياسية بولارية لكنها ليست هي البولار وليست ناطقة باسم “الفلان” ولا باسم “التكارير”….
المجتمع البولاري مجتمع حيوي جدا ومُتدَيِّن جدا وله مع الإسلام والعربية عهد متين كما هو حال السوانك والولوف لكن السياسيين البولار لم يحافظوا على هذا العهد بل يرون أن فك الإرتباط باللغة العربية هو وحده السبيل لتحقيق طموحهم السياسي فكان موقفهم منها عدائيا إلى حد كبير ، أصبحت محاربتها والنأي بأبنائهم عنها العناوين البارزة لعملهم السياسي وخطاب الشحن المجتمعي وسفارة القبول لدى رعاة هذا العمل في فرنسا والغرب ؟
أخي العزيز
أصَّلتم التجاذبات الحاصلة بسياق زمني محدد واقتصرتم على ذكر المحاولة الإنقلابية التي قامت بها حركة “فلام” عام 86 فبدت للقارئ كما لو كانت هي نقطة البداية وفي هذا خلل كبير وتحجيم لقضية أوسع تحبو لعقود خلت ولا يمكن إدراك أبعادها كاملة إلا بتدارس أسبابها كلها ومناشئ اختلالاتها ومعرفة الأطراف الفاعلة في تحريكها محليا وإقليميا ودوليا…….
المحاولة الإنقلابية عام 86 ليست أول محاولة لعسكريين يتربصون بالسلطة وليست المحاولات الإنقلابية حصرا على البولار فمنذ 78 والعساكر يتزاحمون على السلطة، تارة يتنزعونها بنعومة وتارة يفشلون فيها بخشونة وطورا تتبرص بهم الأجهزة الأمنية فتنقض عليهم ولما يبدأ تنفيذ أمرهم، ومن نجح في إنقلابه يكون مصدر الشرعية الأوحد ومن فشل سيدفع من حياته ثمن فشله وقلما تأخذ بحاكم رحمة في حق من حاول الإنقلاب عليه وفشل ؛ يستوى في ذلك الزنجي والعربي ومن لديه توجه سياسي ومن ليس لديه….
لكن المحاولة الإنقلابية عام 86 تميزت في كل شيئ عن سابقاتها وعن كل التي ستأتي بعدها ، فقد قامت بها جماعة واحدة ، من منطقة واحدة وتكاد تكون من مدينة واحدة ثم إنها وحدها التي كان أصحابها ينوون تغيير وجه البلد وإسمه وهويته…..لقد كانت محاولة ذات شحنة إيديولوجية إثنية واضحة المعالم….
لم يحصل إنقلاب يوما ولا محاولة إنقلاب باسم الناصريين ولم يحصل إنقلاب ولا محاولة إنقلاب بإسم البعثيين ولم تحصل محاولة إنقلابية تخلو من عناصر ينتسبون لمختلف ولايات الوطن ومختلف مكوناته، وجمع بين كل الإنقلابات و المحاولات أن المدبرين جميعهم مجرد أفراد يريدون أن يزيحوا أشخاصا آخرين من السلطة في حين كانت المحاولة التي قامت بها “فلام” 86 محاولة إنقلابية دبرتها جماعة قومية ضيقة للإنقلاب على دولة وأمة…. ومثل هذه المحاولات تكون ثمرة لمشروع سياسي مدروس يحبو ولكنه لا يتوقف في حين أن غيرها من المحاولات مجرد إفراز للحظة معينة تتهيأ فيها الظروف الوظيفية لشخص فيظن أنه قادر على إزاحة رأس النظام، فيستدعي معاونيه وخلصائه فيحاول فإن ينجح يأخذ بالسلطة كلها وغالبا ما يعبث بها وإن يفشل سيُجَرُّ وصحبه مصفدين بالأغلال أمام عدل مأمور….
أخي العزيز
لم تكن محاولة الانقلاب عام 86 حدثا عرضيا عاديا و لم تأت من فراغ بل لها ما قبلها، أسَّس لها وكانت امتدادا طبيعيا له وإبنه الشرعي ولا يمكن فهمها دون التعرض له ودراسة أسبابه وتداعياته….
عام 58 كان مؤتمر “ألاك” من أجل وضع تصور جامع لمشروع الدولة الذى بدأ يتراءى للجميع منذ انكسرت شوكة فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
كان المؤتمر في رمضان وحضره خمسة آلاف شخص من مختلف المناطق والمشارب والأجيال وتواجهت فيه مشاريع سياسية مختلفة وأحيانا متباينة ، حزب “الإتحاد التقدمي الموريتاني” بسياسييه وغالبية وجهاء المجتمع يميلون لفرنسا، يواجهه حزب “الوئام” نقيضه من حيث طبيعة حاضنته ومن حيث موقفه من فرنسا خصوصا والغرب عموما، فحزب الوئام خصم فرنسا اللدود وعدو معلن لتوجاتها في موريتانيا والمنطقة ؛ و برزت مع هذين التوجهين الكبيرين جماعتان أخريان ، “جمعية الشباب الموريتاني” ذات التوجه اليساري و”الكتلة الديمقراطية لقورقل” التي تطالب باندماج موريتانيا داخل “فيدرالية مالي” لتكون ثالث مكوناتها بعد السنغال ومالي…
حصل انقسام كبير حول موضوع الهوية وكاد الخلاف يعصف بالمؤتمر فتقرر سحب القضية من جدول الأعمال والسبب أن الجماعات السياسية البولارية لا تقبل بنقاش قد يفضي أن يكون للغة العربية نصيب قد يزاحم اللغة الفرنسية …..
عام 65 قررت حكومة المرحوم المختار ولد داداه زيادة الوقت المخصص لمادة اللغة العربية بساعتين في المرحلة الإعدادية ابتداء من السنة الدراسية 65-66 وأصدرت تعميمين في هذا الموضوع…….
ثارت ثائرة السياسيين البولار وحركوا الشارع الطالبي مطلع فبراير 66 فاشتعلت نيران حرب أهلية واستقال من أطر الجماعة 19 وأصدروا بيان 19 – ما يزال البيان منشورا على موقع حركة “فلام” التي ستعلن رسميا عن نفسها عشرين عاما بعد ذلك – فوضعوا البلد كله على كف عفريت ، مات من الأبرياء كثر وتصدعت سكينة مجتمعية ظلت راسخة قوية لقرون طويلة والسبب المعلن أن اللغة العربية ستأخذ ساعتين في المرحلة الإعدادية !!!! أما الأسباب الخفية فستخبر عنها يوميات فعل الجماعة منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم مع أن الإعلان لم يترك فرصة للتأويل فقد نص على أن تكون بعض مناطق البلاد محرمة على غير البولار فلا يقربها موظف حكومي ولا رجل أمن ولا قاضي من غيرهم وطالب بفيدرالية تكون بداية للتقسيم وحين فشل المشروع أخرجت الحركة سيفها من غمده !!!!!
أخي العزيز
هل كان للناصريين أو البعثيين يومها وجود في الساحة السياسية يهدد حاضر هؤلاء أو مستقبلهم وهل كانت للغة العربية أدنى حصة في الإدارة أو في التعليم ؟ وحتى لو كان للناصريين والبعثيين وجود – وهو ما لم يكن – أيكون من حق غيرهم الإنتصار للغة أجنبية يتشبث بها ولا يقبل اقتطاع ساعتين من وقتها ولا يكون لهؤلاء الحق في الإنتصار للغة القرآن واللغة الأم للأغلبية ولو بساعتين تحصل عليها لأول مرة في بلد مستقل له سيادة !!!! وهل كان في مركز القرار ناصري واحد أو بعثي واحد حين اشتعلت نار الفتنة عام 66 ؟ بل هل كان في الإدارة يومها مُعَرَّب واحد وهل كان يصدر عنها تعميم واحد باللغة العربية !!!!! فما الذي أغشى الجماعة إذن فأشعلت فتنة كادت تقضي على مشروع دولة ما تزال في سنتها السادسة من العمر ؟
انبجست نوايا الجماعة بسرعة فتكشف مشروعها حين أشعلت فتنة 66 فأيقظت الوعي لدى الناطقين بالعربية بالمخاطر الثقافية التي تتهدد البلد فانتشر الوعي بين الناس أن الهوية في خطر حقيقي ؛ فمن يقدر على إشعال بلد بكامله لمجرد تدريس ساعتين من اللغة العربية لن يتوانى عن إحراقه لأي سبب آخر ؟
تنبه الناطقون باللسان العربي أن عليهم الدفاع عنه وحمايته بعد أن ظنوا أن خروج المستعمر من الديار يعني خروج ثقافته ولغته منها أيضا ولكن تبدى غير الذي كان يتصور هؤلاء ، فحماية الهوية لم تعد من عدو متربص وإنما من أذرع محلية لا تقبل وجودا للغة البلد وأهله حتى ولو اقتصر الأمر على ساعتين من التدريس في الإعدادية….
وحين فشلت الحركة في محاصرة اللغة العربية على مستوى التعليم قررت أن تنأى بالكثير من أبناء المجتمع البولاري عن دراستها فزاد ذلك من التنائي وعدم التواصل بين أبناء المجتمع الواحد ؛ فهل بإمكان الحركة أن تذكر الأسباب التي تدفعها أن تصر على تنفير أبناء المجتمع البولاري من دراسة اللغة العربية !!!! وما الذي سيجنيه هؤلاء حين يجهلون اللغة العربية ؟ ولماذا تكون اللغة العربية خطرا على من تعلهما من غير العرب ؟
إن جمع القوميين العرب وحركة “فلام” فيه خلط كبير وفيه أيضا قدر من عدم الإنصاف ، فالجماعتنان تختلفان في أمور جوهرية كثيرة وتستندان لمنطلقات متباينة إلى حد كبير…فالقوميون العرب يحرصون على وحدة البلاد و”فلام” تسعى للفيدرالية والتقسيم والقوميون العرب يرون أن موريتانيا ليست لأحد دون أحد وأن البولار والسوانك والولف والعرب هم عنوان هذه الأرض الجامع المانع ولم يقل قومي عربي واحد إن لعرب مالي والنيجر و الجزائر و المغرب و السنغال الحق أن يدخلوا البلاد ليتجنسوا لكن حركة “فلام” قالت بأن كل إفريقي له في هذا الأرض حق يعطيه جنسيتها وأن ما يسمونه بالمجموعة العربية البربرية وافدون يضطهدون السكان الأصليين ويحرمونهم من حقوقهم في الحياة…..
حاورت أستاذا جامعيا من الحركة أيام ما يعرف بحراك “لا تمس جنسيتي” فسألته إن كان يعلم أن الكثير ممن ألقى الأمن القبض عليهم داخل نواكشوط وهم يمارسون النهب والبطش ويطالبون أن لا يمنعهم أحد من الحصول على “جنسيتهم الموريتانية” كانوا من جنسيات أجنبية ، مالية وسنغالية وإيفوارية وغيرها فكان رده أن الدم الفلسطيني اختلط بالدم الفيتنامي والبوليفي والكوبي وغيره من أحرار العالم جاؤوا لمحاربة إسرائيل وأن هؤلاء الذين اعتقلهم الأمن في نواكشوط إنما هم أيضا جاؤوا لمؤازرة “إخوانهم الأفارقة” الذين يتعرضون للظلم والإضطهاد كما يتعرض له الفلسطينيون على يد الصهائنة !!!!!!
أخي العزيز بوكار
ذكرتم أن القوميين العرب قد أبرموا اتفاقا سريا مع معاوية وقد مضى على رحيل الرجل عن السلطة ما يقارب العقدين من الزمن فكيف لاتفاق سري أن يبقى سريا طيلة هذه الفترة من غياب طرف محوري فيه !!!!! ومن الذي يتستر عليه اليوم وأين مصلحته في أن يبقيه مخفيا !!!! إن أي اتفاق لم يعلن عنه ولم يقدر طرف متضرر منه أن يكشفه ولم تستطع جهة متربصة بأحد أطرافه أن تصل إليه ولم يذكره من انقلب على من قام به ، مثل هذا “الإتفاق” مجرد افتراض لا يستند لأي شيئ خاصة أنكم تعلمون يقينا كيف كانت علاقة الرئيس معاوية ومن سبقه في الحكم بالقوميين العرب……
لكنكم نسيتم أن بطش الأنظمة لم يبدأ مع حكم معاوية ولم يسلم نظام قبله من أن يؤذي معارضيه وحركة “فلام” كمشروع قامت قبل 86 وكان لها وِدُُّ كبير مع أنظمة حاكمة قبل معاوية أذاقت القوميين العرب صنوف الإهانة و مُرَّ العذاب…..فهل كانت الحركة شريكا لهذه الأنظمة في التنكيل بالقوميين العرب وإيذائهم وقطع أرزاقهم !!!!! أم أن الأمر يقتصر على الحاكم العسكري فلا يأخذ رأيا من أحد ومن لا يرضى عنه يودعه السجن ولا يبخل عليه من صنوف العذاب فيكون معاوية كغيره من الحكام لا حاجة له في شريك حين يقرر وما يقرره إنما يندرج في إطار صراع الأنظمة العسكرية مع الجماعات السياسية….فلم يُحَمل القوميون العرب حركة “فلام” مسؤولية فيما تعرضوا له من ظلم يوم كانت لها حظوة كبيرة وكلمة مسموعة لدى الحكام….
أم أن ما يصدر من الحكام في حق القوميين العرب يكون من وحي السلطان وحده وما يصدر من الحكام في حق حركة “فلام” لا بد أن يكون للحاكم فيه شريك وأن الشريك الذي تلقى إدانته هوى في نفوس الحركة هو القوميين العرب حتى لو كان بعضهم حينها يتجاور معهم داخل زنازين المعتقلات !!!!!
أخي العزيز
القوميون العرب هم أول من دخل سجون الأنظمة العسكرية وهم آخر من خرج منها وهم أكثر من اكتوى ببطشها ومات منهم الكثير في سجونها وشرد منهم المئات وفصلوا من العمل قبل نشأة حركة “فلام” وبعدها.
لقد آن الأوان لحركة “فلام” أن تقرأ التحولات الجارية في العالم فتعيد تقييم منطلقاتها السياسية وتستعيد بوصلة العمل السياسي الواقعي الذي يخدم الإنسان في حاضره ومستقبله وأن تعود للعيش المشترك ليس ذاك الذي نسمعه شعارا وإنما ذاك العيش الذي كان عليه الآباء والأجداد……
إن دعوتكم الجميع للتآخي وتجاوز المرارات دعوة نبيلة فهذه الأرض أرضنا جميعا فيها ولدنا وفيها نحيى وفي باطنها تستقر أجسامنا إلى أن يأتي يوم الوعد ومصلحتنا جميعا أن ننظر كما كان آباؤنا ينظرون ، أمة بعضها من بعض اختلطت دماؤها
وجمعت بينها عقيدة واحدة وتاريخ مشترك اختلط فيه الدم بالدم والرحم والرحم والروح
بالروح……
الدكتور / محمد ولد الراظى.
