د. يوسف حسن يكتب : المخزون النفسي عند العرب قد نفد..

قيل، والله أعلم، إن المخزون النفسي عن عرب اليوم قد نفد، بعد أن قلب الدهر لهم ظهر المجن، ولم يعد لديهم مشكلة سيكولوجية تجاه أحد، وأنهم مستعدون لتلبية كل «النداءات الدولية»، ودعوات التهدئة والنوم في العسل، والاعتدال والمرونة السياسية والليونة الاجتماعية، وشد الأحزمة على البطون، وصاروا يقبلون بالرضا، حتى لو تتبدل نعالهم في المساجد.
وقيل، والله أعلم، إن السلام صار على الأبواب العربية الأمامية، فارتاح بال العرب، واستعدوا للاعتذار عن كل ما اقترفه أجدادهم من غزوات وأخطاء وخطايا ونوايا شريرة، وغضب و«عيون حمراء»، بما في ذلك مُعلقة عمرو بن كلثوم التي نظمها الشاعر الجاهلي قبل نحو ألف وخمسمئة عام، بخاصة في بيتها الأخير الذي يقول فيه:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
وقيل، والله أعلم، إن العرب مستعدون، على سبيل المثال: أن يعتذروا لإسبانيا، عن «فتح الأندلس» وتعويض فرنسا عن مقتل كليبر، قائد جيش نابليون، في صيف عام 1800 أثناء احتلاله أرض الكنانة، واعتقال كل من له نسل بالقاتل سليمان الحلبي في أرياف حلب الغربية.
وقيل إن العرب مستعدون للاعتذار أيضاً لبريطانيا، بسبب القبض على ريكاردو قلب الأسد أثناء حرب الفرنجة، ولتقبيل رأس زعيم الحبشة، تكفيراً عمَّا أصاب جسد أبرهة الحبشي من حجارة طير الأبابيل في مكة والاعتذار لأمريكا عن سوء خدمات الراقصة نجوى فؤاد لدى رقصتها أمام هنري كيسنجر) في حفل ليلي بجوار هرم خوفو أثناء الاستعداد لعملية السلام الراقص المستدامة، ولملاطفة البرتغاليين بمئة ألف برميل من النفط تعويضاً، عن قتلى عسكر وبحارة البوكيرك أثناء مقاومة رجال ونساء جلفار وخورفكان لهذا الغزو الشرس والدموي، فضلاً عن ملاطفة الروس باستضافتهم المجانية في قاعدة عسكرية بحرية، تعويضاً عن مشاركة عرب في محاربتهم أثناء وجودهم في أفغانستان في الثمانينات.
وقيل، والله أعلم، إن العرب ما عاد تقلقهم عدوى الإرهاب، ولا موجات المهاجرين من أبنائهم الشباب، وقد اعتمدوا سياسات حسن النية، وتطبيق أفضل «الممارسات الدولية» في القفز فوق حقائق الأزمات ودواعيها، إلى درجة أنهم قد يخصصون الجلسة الافتتاحية للقمة العربية القادمة لإعادة قراءة نص رسالة «وعد بلفور» وتثمينها، والترحُّم على صاحبها، وربما، والله أعلم، أن الأمين العام للجامعة العربية، سيبادر بإحضار أصل رسالة «وعد بلفور» المتضمنة تصريحه الشهير، والذي جاء في رسالة بعث بها إلى اللورد روتشيلد، والمحفوظة الآن داخل المتحف البريطاني.
وقيل للعرب إن كل شيء من حولهم يتغير، العقائد والأفكار والتحالفات ومصبات الأنهر، والمواثيق والتكنولوجيا والفيروسات، والزعامات والأحلام والكوابيس، وبالتالي يترتب عليهم أن يسحبوا لغتهم القديمة من التداول، ويكفيهم أنهم، من خلال دعوة الإسلام، غزوا أو فتحوا من البلدان في ثمانين عاماً في القرن السابع الميلادي، وما بعده بقليل، أكثر مما غزا أو فتح الرومان في ثمانية قرون.
وقيل، والله أعلم، إن العرب مستعدون ل «تصفير المشكلات» إلى درجة الصفير، بما فيها إقامة مهرجان تأبيني لضحايا «أوشفتز»، رغم أنه لا علاقة لأجداد العرب بهذه المسماة محرقة أو شواء، والتي اقترفها أوروبيون من العالم الحر، يعني طبعة أوروبية بحتة.
ولأن الجوّ لان، فقد صار حلالاً أن يُهدي من لا يملك (الجولان)، لمن لا يستحق، حتى ولو كان من اللصوص، وأضحى العرب لا يضيّعون فرصة السراب التاريخية، ويحسنون الظن بالسراب، وإلاَّ فإنهم عرضة لوسمهم بالحمقى.
وقال أعرابي، بعد أن ضاقت حيلته، ونفد صبره، وأخذ يشكو أمره إلى بعيره، وهو يعايره: يا بعيري الغالي، لماذا «بولك أعوج»؟ فيرد البعير قائلاً: هل تري فيّ مِنْ شيء معدول؟
ضحك الأعرابي، وقال هامساً، وهو يُحدِّث نفسه المثقلة بالمواجع: ليس للعرب ما يخفف عن مناكبهم من الهموم والقهر الذي يفلق الحجر في أزمنة ما سمي بالنسيم الربيعي، والكورونا، وأنظمة «شُرم بُرُمْ» من زعران «ولوتية» ومليشاوية، إلاَّ التندّر والتفكّه، والرقص على أنغام لحن تقول كلماته: «يا سيدي ما أجملك، ما أعدلك، لولاك ما دار الفلك».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً