شذرات من” سيسيولوجيا البظان”
نواكشوط,29 اغسطس 2019( الهدهد .م .ص)
وإذا كانت هذه الفئة “لحراطين” لم تحقق مآثرها التاريخية في “المحاظر” أو في ميادين القتال، فإنها قد حققتها في “لكصور” والمضارب وكذلك في “أدوابه” شمامة والعصابة و”غراير” الشمال في “يغرف” و “دمان” وفي “التامورت” أو في “أدروم”.
وإذا كان الفن الحساني كغيره من الفنون يعتبر تاريخا رومنطيقيا يعبر من روح الشعب الحقيقة فمن المدهش أن نلاحظ هذا التوازن الفني المساير لتقسيم المجموعة الحسانية إلى “بيظان” و “سودان” فالـ “آردين” و”التيدنيت” يعبران بالنغمات الحلوة والنبرات الفنية المحكمة عن جانب من تراثنا الموسيقي.
أما الجانب الآخر من هذا التراث فتعبر عنه النبرات الموحية لآلة “النيفارة” والإيقاع الفخم الهادئ لطبل “الرزام”. وإلى جانب “الأشوار الزمنية” لفن “أژوان البيظان” توجد “الأشوار السودانية” ذات النغمات البريئة والمحتوى الصريح، ويتم أداء هذه “الأشوار” في وقت متأخر من الليل مثل موسيقى (الابتهالات الزنجية Negro-spirituals) في أميركا.
أما المحتوى فهو تعبير عن آلام هذه المجموعة وأحلامها المستحيلة.
وتبدأ هذه “الأشوار” بعد يوم من العمل المرهق ثم تشتد وتيرة الغناء شيئا فشيئا حين يغط الأسياد في نومهم العميق يطرد الكوابيس عنهم عمل العبيد في الحقول والمطابخ مرورا بالرحاة أو “المدقة والمهراس” ، المرعى والبئر…
وتخفت النغمات عندما يتلاشى وميض النار الموقدة عند نهاية الحفل الذي ينتهي بآهات بائسة محتضرة يثيرها الحنين وعذاب اليتم والاستلاب والغربة.
أناشيد غير عادية قيمة..
هذه الحوارات السحرية التي تغذيها الروح العدوانية لدى السيد المستبد، والتعذيب الجسدي واللفظي، وغضب السيدة وغيرتها، وتتغذى من صعوبة الحياة اليومية والجوع، وبكلمة واحدة: اللاوجود.
والناي هذه الآلة ذات النغم السحري الذي يربط الراعي – متجاوزا الزمان والمكان – بأصوله المنسية أو يعيده إليها بواسطة نفثات شجية تسحر الإنسان الراعي والحيوان المرعي فيتضامنان في مواجهة قاهرهما.
إن هذه الموسيقى “السودانية” الليلية العجيبة ذات الطابع الحالم المؤلم ليست في النهاية إلا تعبيرا عن فظاعة الحياة لهؤلاء المستضعفين الذين يحاولون اقتناص لحظات ليلية من أعمارهم التي يملكها أسياد الحياة النهارية.
وعلى الرغم من المظاهر فإن الموسيقى تعبير أليم عن ذاتية ثاوية ترفض المسخ والذوبان وتقاومهما بأساليب قد تكون ملتوية ولكنها –على كل حال- معبرة.
وشبيه بذلك ما كان البعض يستغربون من قوة تحمل “السوداني” وتقبله العقاب بصدر رحب، بل وبسخرية في بعض الأحيان، ولكن هذا ليس إلا نوعا من ازدواج الشخصية يضطر (المضطهد) لتمثيله كي يستطيع تحمل حياته اللاانسانية.
وقد كان ذوو الذوق الرفيع يستهجنون قهقهة العبيد ويعزونها إلى خشونة وراثية في الطبع.
بيد أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من التمثيل والتظاهر بالبلاهة لطمأنة السيد.
إنها الشفاه تضحك، أما القلوب فإنها تنزف آلاما ودما.
أما خشونة أقدام العبيد وأياديهم فما هي إلا دروع لاتقاء الحر والبرد ووخز الأشواك ولدغ الثعابين.
هكذا أرغم هؤلاء “السودان” المساكين على العيش في عالم منعزل من الأوهام الساذجة.
وليس هناك من رابط بين عالمهم الوهمي والعالم الحقيقي إلا هذه “الحسانية” التي تتكسر على ألسنتهم مثلما تتكسر “الإنجليزية” على ألسنة أقاربهم من السود الأمريكيين.
إنه عالم من الضياع والعدمية.
بائس عالمكم يا “مبروك” و”مسعود” ويا “مبروكة” و “إسلم عربيها” إنكم غرباء حتى عن أنفسكم وحتى أسماؤكم لا تمتلكونها، بل هي مجرد ابتهالات موجهة إلى العلي القدير لكي يحفظ أسيادكم (ايسلم عربيها) أو ليبارك لهم في أموالهم (مسعود، مبروكه).
إنها حقائق مرة.. لكني أقدمها هنا بدون حقد. ولا أريد توجيه لوم مبالغ فيه لأي كان، فأبناء الضحايا (من مختلف الفئات) وأبناء ظالميهم بالأمس، يشتركون اليوم، هؤلاء وأولئك في تراث واحد ويقاسون المصائب نفسها، ويحملون نفس الآمال.
هذا بالإضافة إلى ما يربطهم من علاقات القرابة بالنسب والمصاهرة والرضاعة. والمطلوب هنا، هو أن نغير عقلياتنا حتى نتمكن من تقليب هذه الصفحة المأساوية من تاريخنا ويتطلب ذلك تفكيرا رزينا توجهه إدارة وطنية مسؤولة.
ثم يجب أن ننسى أن هذا هو تراثنا بجوانبه المظلمة والمضيئة.
وأما هذا الوعي الجديد فإنه ناتج عن الصدمة الاستعمارية.
ولذلك لا ينبغي أن نقسو على تاريخنا أكثر من اللازم باستخدام أدوات في التحليل والحكم غريبة عن واقعنا.
محمد سعيد همدي