” اكنام CNAM “:عقوق للوادين وظلم للمؤمِّنين / باباه ولد التراد
قد لا يتصور البعض أن دولتنا المسلمة التي ضرب أبناؤها أروع الأمثلة في التكافل والوفاء والبرور والإيثار ، أضحت الآن تحظرعلى الأبوين عمليا الاستفادة من التأمين الصحي عند ما يكون ابنهما هو المؤمِّن الرئيسي في نظام الصندوق الوطني للتأمين الصحي ، وأنها في نفس الوقت أعطت ذلك الحق للزوج
والأبناء فقط .
ومع أن الدولة قد قطعت من رواتب أبناء موريتانيا البررة المؤمِّنين دون موافقتهم أكثر من 4% ، لفائدة هذا الصندوق فقد أساءت لهؤلاء الأبناء حين حرمت والديهم وأرحامهم من عائدات نسبة مساهمتهم في التأمين الصحي التي تم قطعها ، وأساءت أكثر من ذلك للأبوين ، الذين أمر الله تعالى بالاحسان إليهما في العديد من الآيات مثل قوله جل من قائل : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) .
وقد وردت أحاديث كثيرة تحث على البرور حتى صارهذا الباب من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومع ذلك فَلن يكون لكلامنا معنى إلا إذا ملأنا عيوننا وأفواهنا َمن حديث نبي الرحمة بأبِي هو وأمي ، فعن أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
وعن بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –قَالَ «سَأَلْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وقد روي عن أَحْمَدَ ” أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَنِيئًا”، وفِي حَدِيثِ جَابِرٍ “أَنْتَ وَمَالُكَ لأبيك ” .
غيرأن تجاهل النصوص المعصومة ومفاهيم العقول السليمة ، قد واكبه خلال إنشاء الصندوق الوطني للتأمين الصحي ببلادنا تكريس للسردية الغربية وازدراء بالموروث الحضاري للأمة ، والتزام مطلق بشرط الولاء للخطاب الإستعماري المتماهي والتابع ، ونقل حرفي لقوانين ونظم أمم بعينها تعتبر العقوق سلوكا متحضرا يتناغم مع الحداثة وحرية التعبير والإرادة والتملك ، كما أن هذه الأمم قد استقر رأيها على أن استيفاء خوارم المروءة يعصم الفرد من الاستغلال من طرف أبويه وتدخلهم في حياته الشخصية .
لذلك يعتقد من يرتهن للآخر ويعيد انتاج ما يكتبه ، أن عليه أن يسلك سبيل قوم آخرين حتى في أبسط الجزئيات ، وهنا نستحضر قول نبينا الحبيب الذي لاينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) .
وبما أن مناط النجاة هو في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، فإن كل مؤمِّن رئيسي في نظام الصندوق الوطني للتأمين الصحي مطالب دائما أن يبرأ إلى الله من عدم استفادة أبويه من التأمين الصحي لهذا الصندوق ، وإلا كان سكوته موافقة ضمنية ، لأن ذلك يعتبرإقرارا للدولة وصندوقها على هذا التصرف الذي يرمز إلى كثير من العقوق ، وعدم الوفاء لمن أحسن تربية هذا المؤمِّن وسهر على جميع مصالحه ، وأوصله إلى ما هو فيه الآن من وظيفة وعلاقة بالدولة ، حتى كأن الأبيات التالية قد كتبها أب منعه عمليا نظام الصندوق الوطني للتأمين الصحي من الاستفادة من التبعية لابنه المؤمِّن الرئيسي :
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا … تَعِلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ … لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي … طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا … لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي … إِلَيْهَا مَدَى مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً … كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أبوتى … فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حَقَّ الْجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ … عَلَيَّ بِمَالٍ دُونَ مَالِكَ تَبْخَلُ
ومع هذا كله فقد يقول البعض ومن بينهم كاتب هذا المقال ان الصندوق الوطني للتأمين الصحي ذكر في كتابه الصغير ” دليل المؤمِّن ” تحت عنوان : المستفيدون من التأمين الصحي :
” المؤمن الرئيسي :
زوجة المؤمن أوزوج المؤمنة
أبناء المؤمن الذين لاتزيد أعمارهم على 21 عاما ، أبناء المؤمن المصابون بإعاقة تمنعهم من مزاولة نشاط مدر للدخل من دون تحديد العمر .
الوالدان المباشران ” .
غير أننا إذا تتبعنا كتاب ” دليل المؤمِّن ” فسنجد أن ملف الانتساب ، قد طلب فيه الصندوق من المؤمن الرئيسي ، أن يحضر أوراقه ، وأوراق الزوج ، وأوراق الأطفال ، ولم يطلب من المؤمن احضار أوراق والديه ، وبالتالي فالصندوق لا يعرفهما ، ولن يقدم مساعدته لمن لا يعرف ، وأعتقد أن هذه الثغرة لم تتنتبه لها الجهة التي نشرت دليل المؤمن ، فضلا عن كونها أساءت كثيرا للنصوص المدونة في هذا الدليل ، حين تعمدت أن يحمد الصندوق بما لم يفعل ، بادعائها أن الوالدين المباشرين للمؤمن الرئيسي يستفيدان من التأمين الصحي ، وهي تعلم أن القانون رقم 018-2010 المتعلق بتوسـيع تغطيـة التـأمين يحتاج إلى مرسوم جديد .
وهذا ما أكد عليه الموقع الرسمي لهذا الصندوق بقوله : ” الى الآن، لم يتم اتخاذ المرسوم المذكور بسبب الإشكالية المرتبطة بنمط التمويـل وقابلية تنفيذ مثل ھـذا النظـام الـذي يعتبـر اختياريـا مـن حيـث المبـدأ علمـا بـأن التأمين الصحي الذي يتولى الصـندوق تسـييره نظـام إلزامـي يجـري تمويلـه مـن خلال مساھمات من المٔومن ومشغله تقتطع من المصدر، لذلك، لا بـد مـن ٕاجـراء دراسة معمقة حتى يتم التأكد من أن الآليات والاجـراءات التـي سـيتم إقرارھـا تسـتجيب لمعايير ومتطلبات نظام تأمين صحي قابل للتنفيذ والديمومة ” ، وهذه القضية في حد ذاتها تقوض الثقة في الصندوق ، وترمز إلى استخفاف بالشعب ، وخاصة المستفيدين من التأمين الصحي !.
أما من الناحية الواقعية فيكفي من حيث البرهان ، أن جميع المواطنين الموريتانيين المعنيين بالتأمين الصحي يعلمون علم اليقين لحد الساعة ، ان الصندوق الوطني للتأمين الصحي لايستفيد منه الوالدان المباشران للمؤمن الرئيسي ، وعليه فإن التزامات الصندوق تجاه الفئات المعنية بنظام التأمين الصحي ليست أكيدة ، ولم تكن عفوية ، مثل ماهو معمول به عند جني المبالغ الكبيرة التي تقطتعها الدولة من رواتب أبناء الوطن المؤمِّنين دون موافقتهم لفائدة هذا الصندوق ، الذي فرض على المؤمن نظاما معقدا ، مع العديد من الإجراءات التي لايمكن أن تتحقق في كل الأوقات ، سيما أن الصندوق قد تعمد أن يسأم المريض ويترك بعض الاجراءات بسبب صعوبتها مع ما تتطلبه حالته المستعجلة ، أوبسبب قلة التعويض ، وكثرة تكاليف التنقل بغية توفير كافة الاجراءات .