وترجل رائد المثقفين والأعمـال / بقلم ؛ محمدٌ ولد إشدو
بالأمس القريب انتقل إلى رحمة الله محمد الحافظ ولد محمد فال (حابه)!
فمن هو هذا الرجل؟
يكاد جيل صدر الألفية الثالثة، جيل الطفرة والهجرة والتيه والأنترنت.. يجهل كل شيء عن هذا الرجل العظيم؛ فلا يعرف عنه بالكاد سوى اسمه المحفور في ذاكرة الوطن. وذلك لأن الرجل اعتزل السياسة والأعمال؛ تاركا مكانه لغيره، حين تقدم به العمر نسبيا، واطمأن على مستقبل الوطن في ظل الإصلاح والنماء، وقد تبوأت إحدى كريماته الفاضلات عرش وزارة التعليم عن جدارة! ثم إنه – بخلاف كثير من أقرانه- كان زاهدا في طلب الشهرة والسلطة والجاه؛ أحرى أن يسعى في استغلال المنصب السياسي في الجمع بين الأختين (السلطة والمال)!
وقد يقول قائل: ما لحابه الذي لم يتعتب مدرسة قط، وللمثقفين؟! وهذا اعتراض وجيه جدا من وجهة نظرنا التقليدية عن “المثقف” وحسب قواعد قاموسنا الدارج للمثقفين.
فمن المؤكد – على ذلك الأساس- أن حابه ليس مثقفا بالمعنى العام السائد لدينا؛ فهو لا تتوفر فيه أي صفة من صفات المثقف النمطي؛ لأنه:
– لا يتكلم اللغة الخشبية! ومن لا يتكلم لغة قوم فليس منهم!
– لا يكذب، ولا ينافق، ولا يغتاب، ولا يشهد الزور، ولا يخون، ولا يغدر!
– لا ينتمي إلى “لوبي” قبلي أو جهوي أو قومي أو عرقي أو شرائحي! بل انتماؤه للوطن الموريتاني الجامع!
ولكنه مثقف بالمعنى الخاص الواقعي والعلمي والأخلاقي!
ولنا هنا أن نتساءل: من هم “المثقفون”؟
يقول محمد عابد الجابري في كتابه المثقفون في الحضارة العربية، وراسل جاكوبي في كتابه نهاية المثالية ما ملخصه: إن مفهوم “المثقفون” الذي ولد في أوروبا وروسيا، قبل غيرهما، مع قضية دريفس سنة 1898 في فرنسا، وثورة 1905 في روسيا، لا يعني الكتبة والمدرسين والمذيعين ومنعشي السهرات.. إلخ؛ بل يعني الفلاسفة والمتكلمين: الأنتليجانسيا الذين ينتقدون الدولة والمجتمع، ويطالبون بالعدالة والحقيقة، باسم الإنسانية التي تعاني، والتي تستحق السعادة!
ويضيف الدكتور عبد الرحمن جوف: “في سوق سنديغا – أكبر أسواق داكار- يوجد رجال مبرزون (agrégés) في الاقتصاد عن طريق الممارسة؛ وهم لم يدخلوا مدرسة قط، ويُشَغِّلون شبابا لديهم الماستر والدكتوراه في الاقتصاد. وهؤلاء الشباب الذين درسوا الاقتصاد في الجامعات وحصلوا على شهادات المتريز والدكتوراه لا يستطيعون تسيير متجر! بينما أولئك القادمون من أعماق باول أو جلوف؛ والذين لم يتعتبوا المدارس قط، يسَيِّرون المتاجر ويدفعون لأصحاب الشهادات العليا في الاقتصاد رواتب! فمن الأكثر ذكاء، ومن الأكثر خبرة، ومن الأكثر فائدة على المجتمع؟”.
حابه ولد محمد فال أحد هؤلاء “المثقفين” الحقيقيين والاقتصاديين المبرزين عن طريق الممارسة، والفلاسفة والمتكلمون (الأنتليجانسيا) الذين ينتقدون الدولة والمجتمع، ويطالبون بالعدالة والحقيقة، باسم الإنسانية التي تعاني، والتي تستحق السعادة!
ذلك هو سر عظمته وخلوده.. وهو سبب انحنائنا لذكراه وتأبيننا له إجلالا وتقديرا له بصفته نوعا بشريا نادرا، ونموذجا إنسانيا فريدا في أزمن الجَزْرِ والانحطاط! ومن شواهد سعيه وريادته ما يلي:
* أسس هذا البدوي القادم من أعماق مدينة شنقيط مملكة تجارية وخدمية رائدة خلال العقد الأول من الاستقلال، مصدرها حمل الخبز على رأسه من الأفران في داكار وإيصاله إلى نقاط التوزيع بالمفرق! وكان يتندر عندما حكم عليه الانقلابيون بالإعدام وصادروا أمواله بأن “حجابا” قال له: إن ثروة مصدرها حمل الخبز على الرأس لن تضيع أبدا! وكان الأمر على ما وصف. وقد عمل في مؤسسات حابه مثقفون وأطر كثير!
* وتآمر مثقفون ورجال أعمال على الوطن فأطاحوا بالنظام المدني وأقاموا نظاما عسكريا على مقاسهم، أخذ في تقسم الكعكة بينهم، ففسدت البلاد، وأصبح وجودها واستقلالها في خطر. فكان حابه، رغم ثرائه واتساع آفاق الكسب المفتوحة أمامه على حساب الوطن والدولة والشعب، في طليعة المثقفين والمتكلمين الذين أعلنوا التمرد والثورة على الباطل، وقاتلوا ذلك النظام نهارا جهارا، دون أن يبالي بجميع العواقب! وقد حكم عليه وعلى بعض أفراد أسرته بالإعدام، وصودرت أمواله فلم يبتئس ولم يركع؛ بل ظل صامدا يعمل ليل نهار في خندق الرفض والمقاومة حتى أطاح بذلك النظام العدو.. وعاد مع رفاقه مرفوع الرأس منتصرا إلى أرض الوطن!
* وتحجر النظام الجديد فسد آفاق التطور ورعى المحسوبية والفساد، فكان حابه في مقدمة المنتفضين ضده. وقد أعطى يومئذ أروع درس عرفته السياسة في تاريخنا الحديث، حين وضع يده في يد عدو الأمس الذي حكم عليه بالإعدام وصادر أمواله، فدعم ترشحه للرئاسة ودخل معه السجن وحوكم معه في مجموعة من المثقفين والقادة!
* وبعد انقلاب يونيو 2003 الفاشل أعاد النظام الكرة فاعتقل قادة المعارضة وحاكمهم مع الانقلابيين، فلم ينكص حاب على عقبيه، ولم يتعام عن رفاقه، ولم يتردد؛ بل اقتحم ثكنة الدرك بوادي الناقة ضحى، وأعلن أمام المحكمة تضامنه معهم وتنديده باستهدافهم وظلمهم!
* وإن أنس لا أنس لقاءنا وقد عاد من زيارة قرى تابعة لاركيز وبوتلميت، فعبر لي عن امتعاضه الشديد من نمط الحياة في الكبله ورتابة العيش فيها وعدم إنتاجية إنسانها. فهي رغم كونها جاثمة على بحيرة الترارزة الجوفية الكبيرة، وأرضها خصبة، وسواعد أهلها مفتولة، فإنها – مع كل ذلك- لا تنتج؛ لحد أن قراها تستورد النعناع من مدينة روصو.. ويتفسحون في مجالسهم بأقدارهم الكبيرة وعمائهم البيضاء ودراريعهم الفضفاضة وينشدون الشعر.. وينادون “محمذن فال”.. ويرددون في منتهى الرضى: الحمد لله الحمد لله.. دون أن يقوموا بأبسط جهد يجسد خلافة الإنسان في الأرض! وكان فخورا بإنسان آدرار الكادح؛ وخاصة بأخواله إديشلي، وبعنفار الذي أغاث آدرار في إحدى المجاعات فجاء بكل شيء؛ بما في ذلك “العيش الصالح”!
وبعد هذا اللقاء مباشرة، شفع القول بالعمل كعادته، فهاجر من نعيم وبذخ انواكشوط إلى شمامه حيث اقتنى أرضا شاسعة زرعها أرزا وقمحا وخضروات، ونمّى فيها المواشي!
فرحم الله حابه بن محمد فال برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته وبارك في خلفه وأهله ورفاقه وأصدقائه وألهمهم الصبر والسلوان إنه سميع مجيب!