الإسراع -إلى – إقصاء…/ أحمد المصطفى

حد

أول من تولى القضاء في الإسلام نَبِيُّه محمد صلى الله عليه وسلم، بعهد من الله تعالى: “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما”/ الآية..

ثبت في الآثار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة، بين مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، حكم في نزاع بين الزبير بن العوام، ورجل بدري من الأنصار، فقال الأنصاري لما سمع الحكم، مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: “أن كان ابن عمتك”، أي حكمتَ لصالحه لأنه ابن عمتك..

وفي حضرة قول الأنصاري البدري، للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب القضاء، لا ضرورة لإيراد مقولة ذي الخويصرة التميمي، بعقب غزوة حنين..

في صحيح البخاري أن عيينة بن حصن دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله، فخاطبه قائلا: “هِي يا ابن الخطاب! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل”..

في الصحيح أيضا أن عدو الله فيروز الديلمي، اتهم عمر رضي الله عنه في عدله، أياما قليلة قبل اغتياله له، في قضية رفعها إليه ضد مولاه المغيرة بن شعبة، حين لم يكن الحكم لصالحه، فقال له في وجهه: “وسع الناسَ كلهم عدلُك غيري”..

لم ينعم عمر رضي الله عنه بحب الناس له في حياته، مع عدله، كما يتوهم البعض، فكان يقول: “ما ترك لي الحق صاحبا”، إنما جاء الإنصاف بعد الموت، وانقطاع أسباب المنافرة..

في شكاية جماعات من أهل الكوفة ضد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال قائلهم: إن سعدا لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية..

إمام التابعين قاضي الكوفة عامر بن شراحيل الشَّعبي، رضي الله عنه، عُرف بالعلم والحزم والعدل والفضل، رُفعت إليه قضية بين امرأة وزوجها، فلما صدر الحكم لصالح المرأة، قال الرجل من أبيات:

فُتن الشَّعبي لما :: رفع الطرف إليها

حين ولت بدلال :: ثم هزت منكبيها

فتنته بقوام :: وبخطي حاجبيها

وبنان كالمداري :: وبحسن مقلتيها

فقضى جورا علينا :: ثم لم يقض عليها..

انتشرت الأبيات على ألسنة الوُلاة والأمراء، وجميع الناس، حتى غنَّاها الأطفال، وبقي الشَّعبي رضي الله عنه تابعيا جليلا، من خيرة قضاة الإسلام، والقصة بتفاصيل متعددة في كتب الأدب والتراجم الموثوقة، وأشار إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء..

كان القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله من أعلم وأعدل قضاة زمانه، وفضلا عن ذلك شيد من ماله الخاص سورا على مدينة اشببيلة لحمايتها من الأعداء، فكافأه الناس بالشغب عليه، فأمسى منهوب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكان قتيل الدار/ كما قال هو في كتابه العواصم من القواصم..(صفحة 297 ـ طبعة الكتاب الكاملة/ دار التراث)..

عاش العلامة الشاعر غالي ولد المختار فال ولد أحمد تلمود البوصادي رحمه الله، تقريبا في الحقبة الزمنية بين 1190 ـ 1240 هجرية، 1776 ـ 1825 ميلادية..

عاش في هذه الحقبة جَمْع من أعيان قضاة هذه البلاد، ننظر إليهم جميعا الآن كسلف صالح، وهم كذلك إن شاء الله، لكن معاصرهم العلامة غالي ولد المختار فال خلَّد فيهم قوله:

إلى رافع الشكوى رفعنا يد الشكوى :: مِنَ أقضية بالجور عمت بها البلوى

قضاء قضاة جامحات نفوسهم :: عن الحق، لا يقضون إلا بما تهوى

تصدر للإفتاء والحكم منهمُ :: مجانين لا يدرون ما الحكم والفتوى

إذا لاح وجه الحكم بالحق أعرضوا :: جنوحا لراشيهم وإن ناقضت دعوى

فعوذا بوجه الله مما أصابهم :: وويل لهم إن الجحيم هِيَ المأوى

ألا فارتشوا ما شئتمُ، إن حسبكم :: جهنم إذ تصلونها لكُم مثوى

ففيها رحى يوم القضاء معدة :: لتشديخ هام الحاكمين بلا تقوى../ أ هـ..

في أحد قضاة السلف الصالح، من أهل هذه البلاد، قال الشاعر الحساني المتقدم هاجيا بسخرية:

قَاضِ فَـ “الدَّشْرَ” مُرَتَّبْ :: گَالْ أعْلَنُّ شَافْ افْلَكْتُوبْ

ألِّ جَابْ الْفَظَّ يَغْلَبْ :: وُلْمَجَابْ الْفَظَّ مَغْلُوبْ..

يَكْره بعض المتقدمين من الفقهاء للقضاة إمامة الصلاة في أماكن قضائهم، خشية الوقوع تحت وعيد حديث: “من أمَّ قوما وهم له كارهون”، لِمَا جُبل عليه الناس من كره قضاتهم، وكان بُغْضُ الناس للقضاة مما يمدح به القضاة..

قال عيينة بن حصن كلامه السابق لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بحضرة ابن أخيه الحُر بن قيس وكان من القراء الذين يدينهم عمر، وغضب عمر من كلام عيينة وهَمَّ أن يوقع به، قال له الحُر: إن الله تعالى قال: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”، وإن هذا من الجاهلين، فتلاها عمر وتوقف..

الإسراع إلى القضاة قديم، وعلى قضاة الضرورة، في آخر الزمان استصحاب ذلك

مقالات ذات صلة