من الارشيف: العلويون اول من ادخل المكتبات د الى بلاد شنقيط
منقول من صفحة الدكتور محمد بن حمان
ذات مرة سألتُ الدكتور يحي ولد البراء ما الذي يميّز بين قبائل الزوايا؟
قال لي: “صحيح إنهم اشتهروا في كل زوايا الوطن بالعلم والحفظ ونشر الثقافة المحظرية، ولكن هناك من الزوايا من عُرف بميزة خاصة وهي “التوثيق” وجمع الكتب والسفر للأماكن البعيدة لجلب الموسوعات العلمية النادرة، ويعتبر العلويون في مقدمة هؤلاء، ولطالما كان ذلك ديدنهم وميْسمهم الذي عرفوا به”.
كانت هذه وجهة نظر أستاذ خبَر المخطوطات وعاش مع نوادر المسائل، وشوارد النوازل.
لقد عثرت على أمثلة شاهدة على الاعتناء الكبير للعلويين بالكتب والكتابة؛ فالمصادر التاريخية تشير إلى أن ولد رازكه كان أول من قدم من المغرب بمكتبة ضخمة نظرا لعلاقته الوطيدة مع ملوكه أنذاك، وقد توارثها العلويون بعد ذلك، وقد سمعتُ من الثقات أن الشيخ سيديّ الكبير عند عودته بعد ذلك بزمان من المغرب مصطحبا معه مكتبة ضخمة هدية من سلطان المملكة عسُرَ عليه معرفة بعض الكتب؛ لكونها مبتورة الاوائل والأواخر، فَذُكِرَ له العلامة فتى بن سيدينا وكان نوازليا مطالعا حادّ الذكاء، فاستدعاه للمهمة ذاتها؛ فعرَّف له الكتُبَ المبتورة وصارت معلومة بعناوينها وأسماء مؤلفيها، ولا يبعُد عندي شخصيا أن يكون التشابه بين مكتبتيْ ابن رازكه والشيخ سيديا هو ما جعل سيّدنا فتًى يألف تلك الكتب ويقوم بتعريفها؛ لأنه قد كان ذا عهد بها. ففي بيت آل سيدينَ كان هناك شغف حقيقي بالكتب، وهنا نذكر أبياتا طريفة للعلامة محمدو بن فتى يُضَمِّن فيها أبياتا لعمه ابن رازكه:
تقول أميم الكتب دعْ واسع للغنى == غنى الكتب دون المال غير مفيد
فقلت دعيني أنظر الكتب ساعة == ألم تسمعي أبيات عمي سيدي
“إذا جلت فكرا في العلوم عويصها == ومادت بي الأفراح كل مميـــــــد
تصاغرت الدنيا لدي وأهلــــــــــها == وجئت بما يشفي غليل مريــدي
ونلت لذيذ العلم بالذوق وحــــده == وكل لذيذ غيرُهُ كــــهَبيـــــــــــد”
ذلك الشغف وتلك العناية والاستماتة في تحصيل مصادر العلوم وموسوعات الفنون المختلفة جعل العلماء والأدباء يحطون رحالهم عند أحياء العلويين طمعا في إعارة الكتب، فتسعفنا المصادر بأبيات جيّدة للعلامة حرمة بن عبد الجليل قالها للعالم الاديب امحمد بن الطلبه وقد جاءه يطلب إعارة كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون، وكان صديقا حميما له يستعير منه الكتب، فأعارها له وخاطبه بهذه الأبيات الرائعة التي يقول فيها :
يا ابن المشايخ والأشياخ أسلافه == جزاء من يسعف العافين إسعافه
لكنّ تبصرة الحـــــــــــكام مبخلة == ولؤلؤ، وسواد القلب أصدافـــــــه
ومن أعار سواد القلب أتلفــــــــه == لكن يهون علينا فيك إتلافـــــــــه
ولما انقضت مدة الإعارة أرسل إليه أبياتا أخرى يسترده منه، فقال:
يا ابن المشايخ متعب الأقلام == أقوى فأقوت بهجة الأيــام
قد كان في أرجائنا متبســما == بفريضة ودقائق الأحكـــام
وفي الوسيط من تراجم أدباء شنقيط أن المختار بن بونه العالم الكبير الذي اشتهر علمه في الآفاق والذي لا يوجد عالم بعده إلا وله عليه الفضل الجزيل، قَـدم على حيّ من العلويين، قاصدا العلامة محمذن بن بابانه وطلب منه إعارة كتاب “الدماميني” وذكر له أهميته عنده وأنه ينوي شرح التسهيل، وأجمل طلبه له في الأبيات التالية:
أتيتكم يا قضاة العلم والديـــــن == وليس لي غرضٌ سوى الدماميني
عن كل حب به قد كنت ذا كلف == وكاد زائدة قد كاد يسليـــــــــني
كأنكم وهي للتحقيق ترفعـــــوا == على ظنون فؤاد ذات تحسيـــــن
فقال محمذن المذكور :أعطوه له على قبح أبياته.
ويكفي قراءة كتب سلف العلويين لملاحظة مكانة الكتب عندهم، فقد أبانَ الخلاف في الحبس- الذي جعل حرمة بن عبد الجليل في طرف، وبابه بن أحمد بيبه في طرف –عن كتب نادرة قد اعتمدا عليها وحاولا ترجيح وجهتي نظرهما من خلالها، يقول حرمة:
مُرَاجِعُنَا فِي رَاجِعِ الوَقفِ قَد ذَهَـــــل == وَسَاقَ نُصُوصًا لاَ تُسَاعِدُهُ فَــــــــــزَل
رَمَى مَا حَكَى المَوَّاقُ مِن قَول مَالِكٍ == فَأَشوَى مُصَابَ القَولِ وَاستَنَوقَ الجَمَل
عَلَيكَ بِتَحقِيقِ المَبَانِي فَإنَّـــــــــــهُ == أبَانَ لَنَا مَا فِي كَلاَمِكَ مِن خَـــــــــــلَل
وكانت أول نسخة من القاموس للفيروزبادي تدخل للمنطقة عموما بحوزة محمدو بن محمدي الذي توفي في الحجاز، بعد تأديته مناسك الحج، وكانت النسخة من ضمن تركته.
و أتى العلامه محمد فال بن بابه من رحلته للحج بكتب نادرة، بعضها طبع لأول مرة، والعجيب أن من بينها صحيح الترمذي المطبوع بــ”بولاق” في مصر، وفي النسخة ورد حديث التوسل عن عثمان بن حنيف، وسبب العلة في الحديث -الذي ضعّفه أو علله بعضهم بها( أيْ جعله معلولا)- لايوجد أصلا في السنخة، فمثلا فعبارة(غير الخطمي) لا وجود لها في النسخة التي قدم بها الشيخ اباه من رحلته تلك سنة 1292هـ.
وكان العلويون يستعينون بالنسخ وباستقدام الكتب –إن لزم الأمر-من الزوايا؛ فقد كانت هناك روابط علمية وطيدة وصلات علمية وثيقة، يقول القاضي الأجل محمد عبد الرحمن بن السالك: فقد أتى شيخنا “ابّاه” بمختصر ابن أبي زيد من مكتبة أهل الشيخ سيديا، وكان غير معروف، وكانوا يظنونه النوادر، وإنما أنا الذي عرفته، ولم أرَه من قبل، غير أني أعرف النوادر، وعندي منه جزءان”.
وفي عون المحتسب فيما يعتمَد من كتُب المذهب يقول القاضي الأجل عن نفسه :” وعندي من كتب المالكية ما ليس عند أحد اليوم”.
وكان الشيخ العالم الورع محمد المختار (الداه)بن أحمد فال يرسل إلى شنقيط لينقل له بعض كلام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي(ت875هـ) من كتابه مكمل إكمال الإكمال، وهو كتابٌ جليل. ولما أتى بعد ذلك فرح وقال: الآن أتت الكتب التي تؤخذ منها الأحكام.
وفي نفس السياق يقول محمد عبد الرحمن بن السالك: “والطالب محم –وهو جده السادس-، عالم فقيه ،عاش في أوائل القرن العاشر، كانت عنده نوازل البرزلي فهو الكتاب المشهور وهو عزيز الوجود، وكان عندنا من كتب والدنا الطالب، ولم يتم، وآخره لم يبلغ القضاء والشهادات، وقال لي شيخنا محمد المختار رضي الله عنه-يقصد الداه بن أحمد فال-: إنه أدركه ،ويمكن أخذ الأحكام منه”.
ثم يذكر كتاب التنبيهات المستنبطة على التنبيهات المختلطة، فيقول:”عندي جزؤها الأول وكان يأمرني شيخنا اباه رضي الله عنه بأن أطلب من اهل الشيخ سيديا الجزء الثاني لينقل لنا”.
تلك باختصار رحلة سريعة مع أمثلة من شغف العلويين بالكتب، وهي رحلة لا تنتهي؛ لأن الشغَف ذاته لا حدود له ولانهاية.