نص كلمة محمد الكوري ولد العربي في تأبين احمد فال ولد احمدو الخديم
نص كلمة محمد العربي ولد الكوري في الندوة التأبينية التي نظمها حزب الكرامة للرفيق الراحل أحمد فال ولد أحمدّو الخديم.يقولةفيها :
لقد اخترت أن تكون عن تساكن البعد التصوفي و البعد القومي في شخصية الرفيق أحمد فال ولد أحمدّو الخديم، طيب الله ثراه.
أيها الإخوة.. أيتها الأخوات.
في منتصف العقد الأول من سنوات هذا القرن ، راودتني فكرة ” تأبين ” رفاقنا من الرعيل الأول ، و هم أحياء بيننا، قبل أن يتخطفهم الموت ؛ خصوصا أنني أعتبر تمتيع الرفاق المتقدمين في السن بتعلقنا بهم و تقديرنا لنضالهم، و هم أحياء، أعمق أثرا في النفس و أصدق قيلا بين الورى.. فبدأت بالرفيق الراحل عبد القادر ناجي مصطفى رفع الله مقامه في عليين ؛ فكتبت تأبينه بين يديه و دونت ما تذكر هو من أحداث و مواقف البعثيين التي عاصرها و وثقت ما ذكر و نسب لنفسه من مواقف و إبداعات نضالية. ثم أتبعته بالرفيق المناضل ودها ولد اسنيكّل عليه شآبيب رحمة الرحمن ، و هو العامل البنّاء البسيط، و نقلت عنه تجربته النضالية، و خصوصا تلك المهمات الخاصة بتوصيل كتب الحزب و أدبياته و نشره ، في ظل نظام هو الأشد قسوة ضد خصومه، عبر الحدود بأساليب تمويهية في منتهى الذكاء .و كنت هيأت الرفيق أحمد فال ولد أحمدّو الخديم أكرم الله نزله للمرحلة التالية من تأبين الرفاق الأحياء، لولا أن ظروفا غير متوقعة حالت دون ذلك. اليوم يلتئم هذا الجمع الكريم من حملة القلم و أصحاب الفكر و السياسة و الرأي في هذا الحفل التأبيني لرفيقنا أحمد فال ولد أحمد الخديم ؛ الذي يمثل، هو نفسه، بأبعاده المتعددة و روافده المختلفة حقلا جامعا لهذه العقول و القرائح مجتمعة؛ فهو رجل قلم و رجل فكر، و رجل سياسة و رأي و رجل ثقافة و شعر و أدب و ذوق ، و رجل تدريس و تربية قلوب…
أيها الإخوة .. أيها الأخوات.
أعرف أن لهذه الأبعاد كلا رجالها في هذا الحضور الكريم ، و كل سيغرف من معينه و يحصد من حقله في هذا الرجل؛ فبعض يسحبون من رصيد تجربته السياسية و النضالية و الرسالية، و بعض يعبون من زلال تجربته الروحية و العرفانية …، فكما يقول المتصوفة ( سبحان الذي أعطى لكل قلب ما أشغله ). ثمة إذن بعد آخر ثر و ثري من أبعاد أحمد فال ولد أحمدو الخديم. إنه أحمد فال البعثي المناضل التقدمي الإنساني . هذا البعد ربما لم يحضر في أذهان بعض الإخوة ، برغم غناه و اتساع معطنه و اختلاف أوجهه على المستويات كافة، الوطني منها و القومي و النقابي ؛ كلها روافد ساهمت في شق هذا النهر النضالي المتدفق حماسا و حضورا و وعيا لآخر رمق. و لهذه الروافد هي الأخرى رجالها المتتبعون للحياة النضالية و السياسية في شخصية فقيدنا.
إننا إذ نستحضر ذكرى شخص عزيز فارقنا و نفتقد بغيابه مكتبة و سفر نضال، فإن هذا الاستحضار يتوجب أن نرتقي به عن مجرد سرد المناقب و الأحداث و الوقائع التاريخية إلى المعاني و القيم و المبادئ و النموذج و كل ما يدخل في هذا الخزين الذي ضحى في سبيل بنائه فقيدنا بزهرة شبابه و مخزونه المعرفي و الروحي و الاجتماعي، و به تفرد و تميز في حقبتنا هذه، و بين أقرانه…
إن الفقيد أحمد فال حيز تلاقي و تقاطع و بوتقة انصهار لهذه الأبعاد و الاتجاهات الإنسانية ، فهو الأستاذ المدرس، و هو الفقيه المعلم ، و هو الشيخ التجاني المربي، و هو السياسي المخضرم المحنك و هو النقابي المتمرس … و هو المناضل القومي العربي البعثي الرسالي التقدمي الإنساني، الذي زاوج بين المرونة الأدائية في مختلف الظروف و بين الصلابة و الوقوف عند القضايا الكبرى لأمته، في مقدمتها الهوية الثقافية للشعب الموريتاني و لغته العربية، دون مساومة و لا مهادنة في ذلك. و كل ذلك بهدوء نفس و طمأنينة بال . لقد نجح الفقيد إلى حد بعيد في التوفيق بين رسالته التربوية الربانية، و بين رسالته التربوية البعثية و النضالية، لسهولة ذلك التماهي بين التجربتين الربانية الذوقية من جهة و الرسالة النضالية القومية، من منظور البعث العربي، فكلاهما تشتركان في تعميق التي تعبران عنها ؛ و كلاهما تنشدان الصدق و الحرص على تربية المنتسبين للبعث و الموريدين للطريقة على هذه الفضيلة التي تفضي بمن صدقوا في انتمائهم إلى الإخلاص و صفاء النفس و نقاء الضمير. فكلا التجربتين، البعث و التصوف، و إن اختلفا في الغاية، تتوسلان مبدأ التسامي عن المغريات للوصول إلى الهدف . فكانت التجربتان في شخصية هذا الرجل بناء متناسقا و إيمان مع إيمان، أحدهما يطلب بعث الأمة و توحيدها بعزة و صفاء ضمير، و الثاني ينشد الآخرة بقلب سليم. هكذا تعمقت التجربة الوجودية للرفيق أحمد فال بفضل إيمانيه العرفاني العميق و إيمانه بأمته و بحتمية تحقق انبعاثها و استعادتها لدورها الرسالي الحضاري ؛ فأنتجت هذه التجربة المتفردة لدى الرجل طاقة هائلة على الصبر و التحمل المغموس بصبغ الوقار و روح التسامح و ليونة الرحمة بالضعفاء و المظلومين ، تواصلا و امتدادا لرأس المال المعنوي و الرمزي الذي بنى عليه العربي ذاته الثقافية و تجربته الوجودية، مع انحيازه للدفاع عن المستضعفين و المظلومين. و الشعر الجاهلي يؤكد هذه الحقيقة في سرديات ميثاليات الافتخار بين العرب، و تباهي بعضهم على بعض…
و من هذه الخلفية الثقافية القومية المصقولة بقيم الإسلام الرفيعة و مثاليته الخالدة ، انبرى الرفيق أحمد فال في معمعان النضال عن الشعب الموريتاني ضمن صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي ، متغنيا بصلابة رفاقه و حزبه في وجه بطش الأنظمة يومئذ. فيقول في قصيدة طويلة له:
الشعب أصبح بين الفأس و العود..
معلقا بحبال الشنق موءود.
تعاورته كلاب الغاب تهرسه.
فمن نطيح و مردي و موقود.
إلى أن يقول :
لا غرو إن سجل التاريخ محنتنا.
في يوم دجن على الأحرار مشهود.
و أصبح الذئب و الفئران تنهشنا .
و نحن ما بين مصلوب و مطرود.
تلك الدروب على الآمال تحملنا.
أيامنا البيض من أيامنا السود.
و قد غنى أحمد فال البعثي للشعب و لرموزه الوطنية و أحيا ذكرى الاستقلال الوطني عن المستعمر الفرنسي ، ناحتا معانيه من مبادئه القومية التحررية في نشدانه لصورة الاستقلال الوطني التي يتوجب انتزاعها من المستعمر الفرنسي و مغنيا لقرار تأميم شركة ميفارما و منتشيا على فرنسا و معاهداتها السابقة المجحفة ، مستحثا للذود عن الأرض و العرض و الحمى.. فيقول :
نفمبر ذكراه تزف لنا البشرى.
نجدد ذكرى عيدنا الأربع عشرا.
نفمبر أحيا اليوم ما كان ميتا.
و ضاعف للأحياء في عهده العمرا.
إلى أن يقول :
فهل علمت مفرم أنك مرسل.
بتأميمها أم أنها تجهل الأمرا.
و يقول أيضا في سياق نضاله الوطني ، مستحثا الهمم و فاتحا للأمل بإمكانية التغلب على الواقع للخروج من ربقة المستعمر و الاستكانة للضعف :
كنا ضعافا يوم ذاك و فاتها. أنا سنقوى في الأخير و ننتصر.
فتقدمت بمعاهدات تكتسي.
شكل اتفاق للتعاون مستمر.
صاغت بنود الاتفاق بنفسها.
و أتت بها موشية بحلى الدرر.
….
لكنها و بلا شعور فوجئت .
بقرارنا فك الرباط المندثر.
و تحقق الحلم الكبير فهللت.
لصداه كل فصيلة حتى الشجر.
هكذا نتبين ” التعايش السلمي ” الإيجابي بين أحمد فال التيجاني المتصوف و أحمد فال القومي العربي البعثي المناضل في سبيل المشروع الوحدوي العربي ، في إطار طابع جدلي مثمر ظل يحكم حياة هذا الرجل حتى أرجعها لباريها. فإذا كان أحمد فال قد غنى و انتشى بأشياخه و أصحابه في الشيخ، فقد غنى و افتخر بالبعث و رفاقه ؛ و ازدهى بصبرهم و طول نفسهم على المكاره، ناثرا مفاخر رفاقه في أيامهم الخالدة ، و مستحثا لروحهم المعنوية و استنهاض العزيمة فيه . فقال في داليته الرائعة ، بعنوان: يا لعيد به احتفلنا !
أن تعود الأعياد في موطن الع
ز علينا ألا نضام لعيد
أن تطل الأفراح من خلل الس
جن علينا سعيدة لسعيد.
أن نكون الفداء في يوم أضحى.
لبلاء في الآخرين حميد..
إلى أن يقول :
يا لعيد به احتفلنا ولم ند
ر أبيض أيامه أم سود.
عد كما شئت قر عينا و لا تح
زن علينا فإننا سنعود.
علمتنا الأيام أن نبتليها.
كلما جد جدها تستزيد.
علمتنا أن نستنير بنا الأي
ام منا الضيا و منا الوقود.
علمتنا أن نسلك الدرب وعرا
أن نشق الطريق و هو بعيد.
عرف البعث منذ كان المآسي.
تتبارى فيها عليه العهود.
فهو دوما معلق أو سجين .
أو شهيد في ساحة أو طريد.
كل يوم ولّى و معه سجين.
كل يوم يأتي و فيه شهيد.
تتوالى الأجيال منا دواليك.
فجيل يمضي و جيل جديد.
بنيت منذ أن وجدنا سجون.
تتباهى بنا و شقت لحود.
كل لحد عليه باقة ورد .
كل سجن تعلو عليه بنود.
و تمر الأيام و البعث طود.
شامخ ما ينال منه الصيد.
و تمر الأيام و البعث يعلو.
قمم المجد إنه لمجيد.
إلى آخر هذه الملحمة بالغة الروعة. و استعاد الرفيق أحمد فال وفاءه لحزب البعث و رمز الأمة الرئيس الشهيد صدام حسين في قصائد ضمنها أسمى معاني البطولة و خلد صور المفاخر و وقائع الزهو البطولي الفريد التي تجلت في شخصية رفيقه صدام حسين. فيقول في إحداها بعنوان : بالروح نفديك يا صدام :
صدام يا رجل التاريخ منتصرا ..
تعش.. و يسقط رغاما مسند الخشب..
أنت الذي فتح الأبواب مشرعة..
أمامنا باحتمال الفارس النجب..
و كنت رمزا لهذه الأمة اكاشفت..
فيه قيادتها في المأزق العصب..
كما رثاه عند استشهاده في رائعة أخرى ، بعنوان ( طوق الشهادة )
استعاد فيها معاني البطولة و معطيات الفروسية التي استشهد من أجلها الرئيس صدام حسين لتكون معالم طريق للأجيال العربية القادمة حين تتهيأ لاستعادة أمجاد الأمة الخالدة و حقب انتصاراتها بالتضحيات الجسام…
هكذا ننهي هذه المداخلة الرمزية عن رجل رمز ، ناسك متبل مناضل تكونت شخصيته المتفردة من عرفان الطريقة التيجانية الأحمدية و فكر حزب البعث العربي الاشتراكي … شخصية بعثية ظلت صوتا مسموعا من أصوات الاعتزار القومي العربي في موريتانيا إلى لبت نداء الأبدية ، كما عرفناها لا تبديل بها في حالة العسر و حالة اليسر، مصداقا لقول الشاعر :
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عض مكروه به خشعا.
رحم الله رفيقنا أحمد فال ولد أحمدّو الخديم ، و عافاه و عفا عنه.
و عزاؤنا فيه أنه لم يك غافلا، و لا نزكيه على الله، و أنه صار إلى رب رحيم، و أننا جميعا هدف للفناء من بعده و به لاحقون. أما سلونا عنه ففي تحقق نبوءته في تفجر .جيل عربي جديد بهذه الربوع، و إنها لبأمس الحاجة لذلك…
