الشاعر والروائي أحمد ولد عبد القادر : نهر إبداع متدفق…!
بقلم : د. محمدو ولد أحظانا
نواكشوط 16 مايو 2021 ( الهدهد .م.)
دلتا نهر الإبداع: (الغول)، و (السفين)
في الأفق الفاصل بين الممكن والمستحيل، بين الواقع العنيد والحلم المجنح، بين قتام التيه الزاحف وشعلة الأمل التي لاتخبو، بين البذرة الحية في سكونها، والجذع الميت في انتصابه، بين الاغتراب الملح في الوطن، والحنين السحاح للانتماء، بين أرض تصاعد في عنان السماء سمادير ودخانا بكل الألوان الداكنة، وسماء تهوي هويا، كسفا فوق هامات البشر المحنية الهائمة على وجوهها. هناك حيث يطبق الصمت على ضجيجه، والخوف على ألمه.. بين كل ذلك وذلك، بل أكثر من البين في مطلقه.
رفع الشاعر المبدع أحمد ولد عبد القادر هامته عاليا، وحدق في وجوده متفردا، وخاطب الكون المتهاوي من حوله بصوته الجهوري الهادئ، مشيرا بأصابع غير مرتعشة وريشة غير هيابة قائلا:
“هي الغول تحبو بألف ذراع،
بألاف آلاف الاذرع تحبو..”
وكعادته أطلق إشارة الدخول بقوة ألى محطة إبداعية جديدة، في عالم تمحي ألوانه في المجهول، عالم هارب من ذاته، تلتهمه رحى فناء هائلة، تسحق تفاصيله في الهباء، “والرحى يدورها مارد أغلف”.
“هي الغول تحبو بألف ذراع،
بألاف آلاف الاذرع تحبو..”
وكعادته أطلق إشارة الدخول بقوة ألى محطة إبداعية جديدة، في عالم تمحي ألوانه في المجهول، عالم هارب من ذاته، تلتهمه رحى فناء هائلة، تسحق تفاصيله في الهباء، “والرحى يدورها مارد أغلف”.
الشاعر الرمز احمدو ولد عبد القادر
لقد كان الميلاد العنيف إبداعيا لهذه القصيدة في لحظة فزع عارم على امتداد البصر وما بعد المدى. ولأن الشاعر اتصف طوال تجربته الإبداعية والحياتية بشجاعة أدبية لاتهزهزها عواصف الخوف فقد احتوى هول اللحظة وتحرر منها بالكلمة الشعرية القوية. لقد كان أحمد وإبداعه سبيكة واحدة، فهو أبداعه وأبداعه هو، مما جعله على ثقة دائمة بأن المبدع لايخسر إن امتلك شجاعة التحرر من واقعه، وعانق الممكن، وحول قسوة المكان والزمان من حوله إلى حكاية وجدانية يهديها على طبق من حرير للمتدافعين في درب الفزع، فكانت قصيدة الغول، وهي إذ ألقت نظرة ثابتة على الواقع الكالح رسمت صورته بدقة ورباطة جأش: في الغول عصف الريح وصوت ما من كل شيء، صليل الحصى الذي يجرف في وجهه كل موجود، من الشجر الخاشع الى أعشاش مهاجر لحمائم تائهات في موج الصدى، الى ضجيج بشر يجمعهم الخوف من أنفسهم ومن غيرهم ومما حولهم.. ويلفظهم عصفا في الهواء. كل شيء كان يذرف دموعا قانية جافة. هل رأيتم دموعا قانية جافة وهي تتحدر كرات أرجوان؟ لقد كانت قصيدة الغول تلك الدموع، ولأول مرة تخبو جذوة الأمل عند مبدعنا، ويفرض عليه المارد وقفة تأمل في أبعاد الكيان، فيرى الضفة الأخرى كالضفة التي يقف عليها بنفس التقاسيم المنسحقة، المتلاشية الملامح الا من عزيف مردة يتخطفون فوق الرؤوس، ويطيحون بأغلبها. يانعة أو غير يانعة، لايهم، فليس في قانون المردة فرق ببن هامة وغيرها، وكيف والرحى تأتي على الحبوب الكببرة والصغيرة لأن تلك هي شرعتها، وشرعة المردة من جنس شرعة الرحى الهائلة.
كنت أول من شرفه الشاعر، حسب علمي، بسماع قصيدة الغول، وعلقت عليها بإيجاز: أنها فتح إبداعي جديد كانت فرع دلتا الأبداع ا الأولى، هي قصيدة الغول.
ليشق الفرع الثاني من الدلتا طريقه فيسقي الحقول الظمأى وهو النص المحوري الثاني عند الشاعر “السفين”، و لقد علقت على هذا النص العظيم، لما شرفني الشاعر بإسماعه لي: أن سفين الإبداع قد أبحر بالفعل، وبدأ يشق اللجة ولم يعد يتمايل بالشاطئ على عصف الغيلان المتزاحمين.
وتصورت حينها أن السفين كان عالي الأشرعة، فخما متهاديا دون ريب، مثقلا بالرموز العظيمة، ولذا فسيلفت انتباه السلطة القائمة باعتباره موقفا سياسيا غير ودي، رغم كثافة المجاز الكلي في الرموز العامة القصصية، والمجاز الجزئي في الصور التفصيلية.
لقد كانت الغول محمية من الرقيب بحكم الغلاف الطبيعي الكثيف لها، وإن كانت لها ظلال أقوى في التحدي، لكنها قد تعتبر خرجة وحيدة يجب صرف الانتباه عنها بإهمالها حتى لاتلفت انتباه الفضوليين، أما السفين فهي الضربة الهائلة الثانية ولا يمكن التغاضي عنها لأنها تقصد وموقف محدد يمليه فضاء التوقع المستنفر منذ قصيدة الغول.
فكانت السفين بذلك أولى وآخر قصيدة موريتانية نوقشت في مجلس وزراء الدولة الموريتانية، وترتب على ذلك استصدار مذكرة اعتقال لقائلها، وقد صدف أن كنت شاهد عيان على ذلك، فقد رابطت فرقة من الشرطة قريبا من منزل الشاعر أياما بعد أن جاءت ألى المنزل لاعتقاله ومعها المذكرة، لكنه كان مسافرا خارج البلد على ما أذكر.
ولعل هذه القصيدة العظيمة الفخمة المتهادية بأشرعها فوق الموج الهائج بثبات، كانت منشغلة ربانا ونوتية وركابا بثيمة الرحيل الأزلي الأبدي غير معنية بالتفاصيل الصغيرة من حولها فاهتزت وأنشدت بكل عنفوان:
“رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وها نحن نبحر
كما كان أجدادنا يبحرون.”
وها نحن نبحر
كما كان أجدادنا يبحرون.”
ومن بين صواري و عنابر السفين المثقل بالراحلين إلى غير مرسى، ترفع ضاربة الرمل عقيرتها بتنبؤات لاشطآن لها خلف قدر التيه، غير مبالية بأخواتها العجائز اللواتي:
“طالت أظافرهن،
يرددن شعر البصيري، شوقا الى الحج..”
وهي أقل مبالاة ب “رجال يضاحكون ملء حناجرهم،
ولازاد عندهم
غير حقائب
من علف الإبل..”
“طالت أظافرهن،
يرددن شعر البصيري، شوقا الى الحج..”
وهي أقل مبالاة ب “رجال يضاحكون ملء حناجرهم،
ولازاد عندهم
غير حقائب
من علف الإبل..”
لاتبالي العرافة الا بقراءة المستقبل المجهول لحشد تاه وتاه مركبه. ذلك التيهان المفتوح.
لقد فهمت رسالة الشاعر وفكت شفرتها السياسية، ونشطت ذاكرة الماضي المتعكر بتهمة النضال، وتوضحت مغاليق المجاز “المبطن والمعنى المريب”، ونشبت المعركة حول السفين دفعة واحدة كشعلة ساحر محترف.
لقد فهمت رسالة الشاعر وفكت شفرتها السياسية، ونشطت ذاكرة الماضي المتعكر بتهمة النضال، وتوضحت مغاليق المجاز “المبطن والمعنى المريب”، ونشبت المعركة حول السفين دفعة واحدة كشعلة ساحر محترف.
وخلال المعركة النقدية الأدبية الضارية حول السفين، نشأت مناظرات نقدية راقية، وناضجة أخرجت من بين موجها أسفارا مباركة أشرت على بداية أول حركة نقدية أدبية تتجاوز الانطباع إلى قرع الحجة بالحجة وتطبيق النظريات النقدية السائرة عل النص الشعري الموريتاني، وهي حركة لم تكن من قبل ولا من بعد حول نص ولا ديوان شعري على الإطلاق في موريتانيا، وخرج النقد الموريتاني من عباءة تاريخ الأدب إلى نقد الأدب.
لذا لم يكن السفين ذروة المحطة الرابعة وإبحارها في اللجة الإبداعية فقط، وإنما كانت سببا في تفجير أول حركة نقدية شعرية مختصة في البلاد بالمعنى النقدي الحديث.
تلك هي خطوتنا الليلة وسنخطو مع الشاعر المبدع أحمد ولد عبد القادر في المحطتين الإبداعيتين التاليتين.
حييتم أصدقاء وأحباء شاعرنا الرائد أحمد ولد عبد القادر وموعدنا المحطة التالية.
شفى الله شاعرنا العبقري أحمد ولد عبد القادر من كل مايشكو منه وأعاده الى سفينة الأبداع ونهرها الجاري وبحرها الطامي.
د. محمد ولد أحظانا