كتب : د.أباه ولد أحمد ولد أباه: في سجل تعازي الرفيق ولد بريد الليل….
نواكشوط 15 يناير. 2021 ) الهدهد . م.ص)
سمعت عن الأستاذ محمد يحظيه ولدابريد الليل بداية السنة الدراسية 1971/ 1972 وأنا في السنة الأولى إعدادية في معهد أبي تلميت للدراسات الإسلامية، الإعدادية الوحيدة في موريتانيا باللغة العربية وكانت طاقته لاتتعدى أربعة فصول.
كانت تلك السنة استثنائية حيث كان عدد الناجحين في المسابقة سبعين تلميذا وزعوا على فصلين وتميزت السنة بأنها كانت سنة الحوار بين وزارة التعليم وتلاميذ الثانوية وكتعبير عن حسن نية الوزارة أعادت كل المطرودين في السنوات الماضية بسبب الإضرابات وفتحت حوارا لحل المشاكل العالقة وكلف وفد من وزارة التعليم يرأسه مدير التعليم الثانوي بزيارة الثانويات لبلورة هذا النقاش.
كانت مدينة بتلميت تستقبله بالأناشيد يرددها (أبتي روج) لقب احد الشباب المتاثرين بحماس بالطرح الماوي petit rouge محمولا على الرقاب، وفي الحقيقة فَهمَ التلاميذ خاصة الجدد أن الأساس هو النقاش بين الكادحين والقوميين والإضرابات والمظاهرات وتحرير الشعب من الرجعيين وكان النقاش يدور حول تحقيق هذا الهدف وأصبح جل الوقت في القسم الداخلي بما فيها أوقات الدراسة مخصصا لهذا الغرض وكل طرف له قادة مفوهون يجادلون عنه وسرعان ما اقتنعتُ بأطروحات القوميين خاصة التوجه البعثي حيث أصبح التمازج واضحا بين طرح محمد الأمين ول الديد ومحمد الصغير ولد تقي الله ومحمد ولد خباز مع محمد محمود ولد صدفة ومولاي الزين ولد أحمدو والمختار ولد محمد موسى كمثال لبعض القادة القوميين آنذاك، مما سمح لي بحضور دروس من التكوين الفكري في كتاب في سبيل البعث يقدمها الكاتب احمد بياه في منزل خارج الحي السكني وتعرفنا عن طريق المختار لسان الدين على كثير من المقالات العربية في هذه الحلقات التي نحتاج أن نتزود بها في ساحة النقاش وكنا نسمع في تلك الحلقات العفوية كثيرا عن الأسطورة ولدابريد الليل وعن ممد ولد احمد ومحمد يحظيه ولد الطلبه الذين سأتعرف عليهم سنة 1973 عندما دخلت الثانوية الوطنية في أول قسم علمي يفتتح فيها باللغة العربية وثاني قسم أدبي فكان محمد يحظيه ولد الطلبه مديرا للدروس وممد ولد أحمد أستاذا، وفي السنة الموالية 74 سيصبح مديرا عاما. وبما أن هذه السنوات كانت سنوات جمود سياسي انقطعنا عن العمل والنشاط حتى سنة 1977 1978، بعد دخولنا للمدرسة العليا للأساتذة، ساعتها استرجعنا بصفة عفوية تنسيقا مع الناصريين ضد الكادحين الميثاقيين، فأفشلنا محاولة لتأسيس اتحاد للطلاب يتبع لحزب الشعب الموريتاني .
وعند ما عين محمد يحظيه واليا للترارزة زار مسقط رأسي قرية النباغيه وبعد المقيل والتحدث مع الوجهاء فتح نقاشا مع الشباب الذين كان بعضهم متأثرا بتوجه الإخوان المسلمين، فقررت أنا وجماعتي المتأثرة بالطرح القومي وبفكر البعث أن نقدم أطروحات مخالفة، وهو ما استوعبه الاستاذ بسرعة خصوصا حين التمست منه بعد انتهاء الجلسة أن يشرب معنا الشاي في منزل آخر واستجاب متخليا عن الأبروتوكول الذي يتطلب مرافقة حمايته.
في الاجتماع الخاص طرحنا عليه أننا جماعة مقتنعة بالفكر القومي منقطعة عن اية صلة تنظيمية، فلم يرد بأي حديث مرتبط بطلبنا بل ودعنا بعد أن عرفناه على أسمائنا، ولم يسجل شيئا لا ملاحظات ولا أسماء أو عناوين، وهو ما حسبناه تجاهلا لنا ، وبعد عودتنا الى انواكشوط اتصلت بكل منا شخصية سامية ومعروفة على الساحة وربطته بالتنظيم السياسي للحزب الذي يمارس عمله في النضال السري.
وفي سنة 1981 بعد تخرجي أوفدتني الوزارة أستاذا إلى ثانوية روصو، وكنت في الأشهر التي سبقت الإعتقالات التقي به كل شهر حاملا بريدا من الدكتور محمدن ولد أنحوي رحمه الله، آخذه منه على الحدود السينغالية أو يرسله الى مع أحد رفاقه في كلية الطب كالناجي ول المنير أوعبدالله ول ببكر أو المرحوم عبد الله ول النم، ومن الغريب أن الوقت الذي أزوره في منزله كان دائما حوالي التاسعة مساء أراه ينتظرني في المنزل وحده كأنه على علم بمجيئ ومدة الزيارة عادةقصيرة يسألني عن بعض المعلمين كانوا يترددون عليه في روصو يتطلبون انضمامهم للحزب دون أن يعرفوا الطريقة، وهذا اللغز المحير سأفكه سنة 1995 لما دخلنا معا في السجن المدني حين أكد لي إنه لم يربط أحدا بالتنظيم بل ظل يوكل المهمة لأحد الرفاق.
وما بين 1985 —- 1988 كنا نلتقي سواء للسلام عليه في بيته أو بعض اللقاءات التي يتطلبها العمل الحزبي وبعد ذلك لم نلتق إلا في سجن مدرسة الشرطة 1995 خاصة بعد انتهاء التحقيق حين زارنا رئيس لجنة حقوق الإنسان فتحدثت له أمام الجميع بمن فيهم المحققين أن أنواعا بشعة من التعذيب مورست عليَّ كنزع الثياب والضرب وقضاء أيام معزولا في غرفة ضيقة في مدرسة الشرطة لا أستطيع الوقوف داخلها، فهنأني على هذا التدخل ولما كنا في السجن المدني كنت أزوره في غرفته مع بعض الرفاق وينفتح علينا بعض الأوقات ليعطي محاضرات من تاريخ المناضلين وخاصة الرواد.
ثم توطدت العلاقة بعد انضمامي للقيادة السياسية لحزب الصواب في مؤتمره الأول2006 فاقترح أن أحرر محاضر إجتماعات القيادة فاستفدت كثيرا منه و من تلك التجربة وفي بعض الأوقات أحضر مبكرا للحزب حيث يأتي وعنده مفاتيح المقر وأتحدث معه بعض الوقت في المستجدات اليومية وفي بعض الأحيان نلتقي في بوادي اترارزة وقطيع بقره الذي ظل لسنوات طوال يوزع منافعه على بعض الفقراء المحليين، وفي موسم الخريف تؤمه عشرات الأسر بحثا عن اللبن الطازج وفي كل زيارة يذبح لهم ثورا للتزود به.
دفعتني مقالاته الأخيرة التي بدأ يتحدث فيها عن التاريخ السياسي لهذا القطر الى البحث عن نشاطه السياسي والعلني عن طريق أرشيف جريدة الشعب وتتبع محطات عمله السياسي منذ العاشر يوليو1978 حتى آخر وظيفة يتقلدها في الدولة. فازدادت حيرتي من المزاوجة بين إكراهات العمل الحكومي والتنظيم الثوري ومن أجل فك هذا اللغز تشجعت وأرسلت إليه رسالة أطلب بعض التاريخ السياسي الموريتاني ففهم بحصافته المعهودة أنني أستعجل مذكراته قبل أن يترك حياته للإفتراضات والتأويل وواعدني بأنه سيزودني بما أمكن وأنا متفائل أنه قد أنجز ذلك الوعد.