قصصهم المتشابهة حتى الضجر…/ البشير عبد الرزاق
نواكشوط 25 دجمبر 2019 ( الهدهد .م ص)
في صبيحة يوم الجمعة السادس عشر من مايو من عام 1997، رمى موبوتو سيسي سيكو بنفسه داخل المقاعد الخلفية لسيارته الرئاسية، انطلقت به مسرعة إلى مطار “إنجيلي” شرق كينشاسا، ليبدأ من هناك رحلة الهروب المضنية نحو المنفى والموت البطيء،
كينشاسا، التي كان يقول عنها المارشال لجلسائه، قبل ذلك بأيام قليلة، إنها المدينة التي لا يمكن أن تقهر أبدا، سقطت، كثمرة يانعة، في لمح البصر، استسلمت في هدوء دون أن تطلق رصاصة واحدة في وجه “الغزاة”، ونامت ليلتها تلك في أحضان جنود كابيلا، المخمورين بنصرهم حتى الثمالة،
تلك الثقة البلهاء والمفرطة، هي التي تصنع الديكتاتور، لكن الغريب في الأمر، هو أن هذه الثقة البلهاء والمفرطة، هي ذاتها التي تفضحه وتعريه وتفككه إلى قطع صغيرة، تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وسط دهشة الجماهير.
..في مساء الرابع عشر من يناير من عام 2011، وفي ليلة عاصفة وماطرة جدا، وبعدما اشفق السعوديون على طائرة الرئيس التونسي الهارب ومنحوها إذنا بالهبوط، التفت زين العابدين بن علي، وهو ينزل سلم تلك الطائرة، إلى قبطانها وخاطبه بنبرة واثقة جدا: “سنبيت الليلة هنا وغدا نعود إلى تونس”،
المسكين، لم يدرك بأن حبل الود قد انصرم، وأن تلك الطائرة ستعود أدراجها من ساعتها وبدون ركابها، وأن “الخضراء” قد لفظته إلى الأبد، وأنه حتى حين يموت لن يحظى بشبر من ثراها، يوارى فيه،
قصص ديكتاتوريات الموز متشابهة حتى الضجر،
..غداة انقلاب يونيو 2003، أطل علينا الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع من مدينة أزويرات، تساءل الرجل بحرقة واستغراب شديدين، كيف يمكن لأحدهم أن يفكر في الانقلاب على نظام هو من أطلق “مشروع الكتاب”! المسكين، لم يكن يتصور أبدا، أنه بعد سنتين ونيف من ذلك اليوم، وبالتحديد في فجر الثالث من أغسطس من عام 2005، سيجد نفسه هو الآخر، عالقا داخل طائرة معلقة في السماء، يخشى قبطانها أن ينفد وقودها، قبل أن تصل إلى وجهتها الأخيرة،
..وهو في منفاه، قرر موبوتو ذات صباح شتوي، أن يرتدي معطفه القديم، بدا مشهد الرجل داخل ذلك المعطف مضحكا للغاية، بعدما طحنته أيام الغربة وأتت عليه سنوات المرض الطويلة، أشفقت عليه زوجته حين رأته في هذا الوضع، وقالت له بلطف شديد إن ذلك المعطف لم يعد يناسبه، وعندما وجدته مصرا على موقفه، طلبت منه أن يبعث به إلى الترزي لكي يعيد ضبطه على مقاسه، عندها استشاط المارشال غضبا ونهرها بعنف،
ستستعيد “زائير” اسمها القديم ” الكونغو”، وستستعيد سماءها زرقتها وجمالها، وسيستعيد نهرها صفاءه وجريانه، وسينبذ الكونغوليون سنوات موبوتو بضحالاتها ومراراتها، التي لا تعد ولا تحصى، وراء ظهورهم، لكن المارشال سيبقى مصرا على أن معطفه ذاك ما يزال على مقاسه، وسيظل يناقش زوجته في الأمر، حتى أخر أيام حياته،
..في ليلة “المؤتمر الصحفي الأخير”، لم يكن هناك لا صوت ولا صورة ولا حشود ولا جنود، كل الذي كان هناك هو انتظار طويل جدا وصمت رتيب للغاية، الرجل الذي كان يقطع “البث الوطني” بحركة من أصبعه ويعيده بحركة أخرى، أعياه الحصول على قناة تلفزيونية تنقل مؤتمره الصحفي، بعدما تقاذفته فنادق المدينة الواحد تلو الآخر، كقطعة البطاطا الساخنة، وأعادته إليه في عقر داره،
أحيانا، لا تكون قصصهم المتشابهة مضجرة فحسب، بل ومحزنة أيضا، لدرجة تتفطر لها القلوب.
قبل أيام من سقوط كينشاسا، انعقد لقاء “الفرصة الأخيرة” بين موبوتو وكابيلا، حدث ذلك على متن بارجة بحرية جنوب إفريقية، وبرعاية حكيم القارة وأيقونتها نيلسون مانديلا، في تلك الليلة المقمرة وسط ذلك البحر الهادئ، انتحى ماديبا بموبوتو جانبا وهمس في أذنه ناصحا: (عندما يحين وقت الخروج من “الجغرافيا”، لا ينفع العناد أبدا، فليس هناك مكان آخر نأوي إليه سوى “التاريخ”)،
للأسف الشديد، ليس “المارشال” وحده، هو الذي لم يعمل بنصيحة مانديلا تلك…