ركن من حياة الصحابة: شذرات من المبشرات بمولد خير البرية
ظهرت بشائر بمولد خير البرية قبل ميلاده وفي ليلة ميلادها صلى الله عليه ومن البشائر التي ذكرها اهل الكتب والتي عثروا عليها في يكون كتبهم ما سنرويه في هذه القصة التي ذكرها المتتبعون للسيارة النبوية
« لو كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عن قَدَمَيْهِ» هذه العبارة التي قالها هرقل عظيم الروم هي تبيان لمكانة وعظمة خير البرية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي طوت بشاراته الآفاق قبل مولده وقبل بعثته، وذلك مبثوث في علوم الأولين وخاصة عند أهل الكتاب، فهو مذكور باسمه ووصفه، وصفة أصحابه، والأعمال التي ينجزونها من فتوحات للممالك والأمصار، ولذلك قال هرقل في تكملة كلامه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ ما تَحْتَ قَدَمَيَّ»، في القصة المشهورة التي روتها كتب السيرة التي مفادها أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد صلح الحديبية الذي كان في السنة السادسة للهجرة وهو الوثيقة التي وقعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش، وتضمنت شروطًا اتفق عليها الطرفان، فتفرغ الرسول الكريم للدعوة، فأرسل رسائله إلى الملوك في بقاع الأرض منهم ملك الروم والفرس والحبشة وعمان.
وهنالك الكثير من الكتب التي تحدثت عن دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- وأنه مذكور في التوراة والإنجيل، ومن ذلك ما ورد في كتاب «البداية والنهاية لابن كثير» أن عبدالله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا.
قال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.
قال فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عني كذبًا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم.
ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله! وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاءهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله
إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أَمِر أَمْرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر! فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.
سيف بن ذي يزن يبشر بالنبي محمد
ومن المبشرات التي أخبرت عن مقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما ذكرته كتب السير عن لقاء الملك التبعي سيف بن ذي يزن بعبدالمطلب جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإخباره إياه بمقدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يكون من نسله فقد ذكر جمال الدين أبو الفرج الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الأمم والملوك» هذه القصة فقال فيها: لما ملك سيف بن ذي يزن أرض اليمن، وقتل الحبش وأبادهم، وفدت إليه أشراف العرب ورؤساؤهم ليهنئوه بما ساق اللَّه عز وجل إليه من الظفر، ووفد وفد قريش وكانوا خمسة من عظمائهم: عَبْدالمطلب بْن هاشم، وأمية
عَبْد شمس، وعَبْداللَّه بن جدعان، وخويلد بن أسد، ووهب بن عَبْد مناف بْن زهرة. فساروا حَتَّى وافوا مدينة صنعاء، وسيف بْن ذي يزن نازل بقصر يسمى غمدان، وكان أحد القصور التي بنتها الشياطين لبلقيس بأمر سليمان، فأناخ عَبْدالمطلب وأصحابه، واستأذنوا عَلَى سيف فأذن لهم، فدخلوا وهو جالس عَلَى سرير من ذهب وحوله أشراف اليمن عَلَى كراسي من الذهب وهو متضمخ بالعنبر، وبصيص المسك يلوح من مفارق رأسه فحيوه بتحية الملك، ووضعت لهم كراسي الذهب، فجلسوا عليها إلا عَبْدالمطلب، فإنه قام ماثلا بين يديه واستأذنه فِي الكلام، فقيل له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم.
فَقَالَ: أيها الملك، إن اللَّه قد أحلك محلًا رفيعًا صعبًا منيعًا شامخًا باذخًا منيفًا وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أطيب مغرس وأعذب منبت، فأنت أيها الملك ربيع العرب الذي إليه الملاذ، وذروتها الذي إليه المعاد، وسلفك لنا خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، لن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، ونحن أيها الملك أهل حرم اللَّه وسدنة بيت الله، أوفدنا إليك
الَّذِي أبهجنا من كشف الضر الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة فَقَالَ سيف: أنتم قريش الأباطح؟ قالوا: نعم.
قَالَ: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا ومناخا سهلا، وملكا سمحا يعطي عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف فضلكم، فأنتم أهل الشرف والحمد والثناء والمجد فلكم الكرامة ما أقمتم، والحباء الواسع إذا انصرفتم.
ثم قَالَ لعَبْد المطلب: أيهم أنت؟ قَالَ: أنا عَبْد المطلب بْن هاشم. قَالَ: إياك أردت، ولك حشدت، فأنت ربيع الأنام، وسيد الأقوام، انطلقوا فانزلوا حَتَّى أدعو بكم ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم، فأقاموا شهرا لا يدعوهم ، حَتَّى انتبه لهم ذات يوم فأرسل إِلَى عَبْد المطلب: ائتني وحدك من بين أصحابك فأتاه فوجده مستخليًا لا أحد عنده، فقربه حَتَّى أجلسه معه عَلَى سريره، ثم قَالَ له: يا عَبْد المطلب، إني أريد أن ألقي إليك من علمي سرا لو غيرك يكون لم أبح به إليه، غير أني رأيتك معدنه، فليكن عندك مصونًا حَتَّى يأذن اللَّه عز وجل فيه بأمره، فإن اللَّه منجز وعده، وبالغ أمره.
قَالَ عَبْدالمطلب: أرشدك اللَّه أيُّها الملك. قَالَ سيف: أنا أجد فِي الكتب الصادقة، والعلوم السابقة التي اختزناها لأنفسنا، وسترناها عَنْ غيرنا خبرًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا، فيه شرف الحياة، وفخر الممات للعرب عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فَقَالَ عَبْد المطلب: أيها الملك، لقد أبت بخير كثير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سرورًا.
فَقَالَ سيف: نبي يبعث من عقبك، ورسول من فرعك، اسمه مُحَمَّد وأحمد، وهذا زمانه الذي يولد فِيهِ، ولعله قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، والله باعثه جهارا، وجاعل له أنصارًا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، تخمد عند مولده النيران، ويعَبْد الواحد الديان، ويزجر الكفر والطغيان، ويكسر اللات والأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عَنِ المنكر ويبطله.
قَالَ عَبْدالمطلب: علا كعبك، ودام فضلك، وطال عمرك، فهل الملك ساري بإفصاح وتفسير وإيضاح؟ فَقَالَ سيف: والبيت ذي الحجب، والآيات والكتب إنك يا عَبْدالمطلب لجده بلا كذب. فخر عَبْد المطلب ساجدًا فَقَالَ: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وطال عمرك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت؟ قَالَ عَبْد المطلب: نعم أيها الملك، كان لي ولد كنت به معجبًا فزوجته كريمة من كرائم قومي تسمى: آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته: مُحَمَّدًا وأحمد، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قَالَ: هو هو للَّه أبوك، فاحذر عَلَيْهِ أعداءه، وإن كان اللَّه لم يجعل لهم عَلَيْهِ سبيلا، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرت بخيلي ورجلي حَتَّى أجعل مدينة يثرب دار ملكي، فإني أجد فِي كتب آبائي أن بيثرب استتباب أمره، وهم أهل دعوته ونصرته، وفيها موضع قبره، ولولا ما أجد من بلوغه الغايات، وأن أقيه الآفات، وأن أدفع عنه العاهات، لأظهرت اسمه، وأوطأت العرب عقبه وإن أعش فسأصرف ذلك إليه، قم فانصرف ومن معك من أصحابك. ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير وعشرة أعَبْد من الحبش وعشرة أرطال من الذهب، وحلتين من البرود، وأمر لعَبْد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم، وَقَالَ له: يا عَبْد المطلب، إذا شب مُحَمَّد وترعرع فأقدم عَليّ بخبره. ثم ودعوه وانصرفوا إِلَى مكة.
وكان عَبْد المطلب يقول: لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم، وإن كان ذلك جزيلا، وفضل إحسانه إليَّ، وإن كان كثيرًا، اغبطوني بأمر ألقاه إلي فما فيه شرف لي ولعقبي من بعدي فكانوا يقولون له: ما هو؟ فيقول لهم: ستعرفونه بعد حين..؟!