في تأبين معالي الوزير الأستاذ محمد فاضل ولد الداه (5/5) بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
2. الفتوة. وتختزل في قاموس البيظان العلم والأدب والنبل والتواضع والأناقة. وكان فاضل بهذا المفهوم فتى؛ فكان غزير الثقافة جم المعارف فصيح اللسان نبيلا وكريما ومتواضعا وأنيقا. يقول عنه الأستاذ حمزة ولد سيدي حمود؛ وهو صحفي عاصر صعود نجم فاضل في الكادحين: “أذكر كيف كانت الأعناق تشرئب لرؤية محمد فاضل ولد الداه، حين يقال: حضر… وعندما تبدأ المحاضرة يسود الصمت والهدوء كأن الطير على رؤوس الحاضرين، من فصاحة تلك الحنجرة الأخاذة وانسكاب تلك الجمل البديعة”.
ولقد كان كذلك؛ إذ أوتي فصل الخطاب! وكنت شخصيا أدمن حضور خطاباته في حفل تقسيم جائزة شنقيط، لما أجد في سماعه من لذة “اللفظ المفيد” الذي يمصمص الآذان من درن وباء النعيق المتفشي!
ويقول عنه الأستاذ الجليل بدين ولد آمين: “التقيت فاضلا لأول مرة صدفة عند أهل إمام ولد حي بداية السبعينيات فأحببت أسلوبه في الحياة وأفكاره. كنت طالبا غير ممنوح في القاهرة، وجئت لقضاء العطلة في نواكشوط؛ فدعاني إلي بيت يسكنه مؤجر في دار لخواص كبيوت الطلاب، وصار يأخذني معه إلى المطاعم للغداء والعشاء. وكان يعطيني أحيانا أعدادا من صيحة المظلوم أوزعها. وقد أحببته كثيرا. ولما عدت إلى القاهرة حدثت عنه أخي الدكتور المختار فقال لي: لقد جاء معنا فاضل في بعثة إلى القاهرة، وكان من أروع الناس؛ فهو من حفاظ القرآن الذين لا يشق لهم غبار، وذو خط عربي جميل. ولم تكن لديه شهادة تخوله دخول الجامعة، ولم يكن يعرف الفرنسية، فاشترى قاموسا فرنسيا – عربيا يحوي ستة آلاف كلمة فحفظه، ودخل مسابقة دخول الثانوية ففاز فيها متفوقا، ونجح في الباكالوريا. ولكن ظروفا سياسية وصحية حالت دون مواصلته للدراسة في مصر فانتقل إلى المغرب، حيث سجل في كلية الحقوق وحصل على الليسانس في القانون. وأتذكر أني لما عدت إلى القاهرة سألته ماذا تريد أن أبعث لك من قاهرة المُعِزّ؟ قال: ابعث لي أغنية أم كلثوم فات المعاد! التي تقول فيها: فات المعاد وبئينا بعاد.. بعاد.. والنار بئيت دخان ورماد.. عايزنا نرجع زي زمان؟ وؤول للزمان: ارجع يا زمان! وهات لي ألب لا ذاب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان! بتفيد بأيه يا ندم، وتعمل أيه يا عتاب؟ طالت ليالي الألم وتفرقوا الأحباب…”.
ويضيف: “كان على خلق عظيم وفكر قويم ويحب وطنه موريتانيا حبا جما. وكان يحب أزوان والتدينيت حبا غير عادي، وكان ديمقراطيا من الطراز الأول. وعندما أصبح وزيرا صرت أرتاد منزله في حي K ولم أشعر قط في علاقتنا بأنه أصبح وزيرا؛ بل كانت علاقتنا وهو وزير كعلاقتنا قبل أن يكون وزيرا! وكان يعطيني نسخا من كتاباته الجميلة. وعندما صار سفيرا في العراق راسلته فرد علي وأرسل لي نسخا من مجلة كان يصدرها هناك وضع لها افتتاحيات رائعة. كان رحمه الله قارئا ممتازا ومخلصا لأصدقائه”.
ويقول عنه الدكتور السيد ولد ابّاه: “أكد لي ثقات أن المصريين كانوا يقولون عن فاضل إنه كان عبقريا لا يشق له غبار، فصيح اللسان حاد الذكاء، سريع الفهم. وقد قال لي إنه لم يستطع النوم ليلته الأولى في هذه المدينة الساحرة (القاهرة) من شدة التأثر وهول المفاجأة”. (وذلك لأن القدوم إلى القاهرة كان أقصى ما يتمناه جيلنا يومئذ)!
ويردف الدكتور السيد ولد ابّاه أن فاضلا كان متفوقا في الدراسة طيلة سنوات التحصيل في المغرب لحد أذهل أساتذته. وأنه هو اعتاد زيارته كل ليلة مدة ثلاثة أشهر لمّا جمعتهما القاهرة؛ حيث كان فاضل سفيرا هناك، وكان يستفيد في كل جلسة كثيرا من أفكاره ومعلوماته، رغم تواضعه الجم وابتعاده عن الأضواء. وأنه أخبره بأنه اشترك الزنزانة في السجن مع عالم الرياضيات يحيى ولد حامدٌ رحمهما الله. وختم قوله بأن فاضلا “لم يخلع يوما رداء الشاعر والمثقف في وظائفه العامة، بل حافظ على أناقة الأسلوب ولطف العبارة وجمال السبك اللغوي”.
ويقول عنه الزعيم النقابي الفذ محمذن ولد باگا: “.. أتذكر الأستاد الفاضل المناضل الشهم محمد فاضل ولد الداه؛ إذ قضينا قرابة سنة في زنزانة واحدة، ونعم الرفيق شجاعة وحكمة وثقافة وتواضعا.
نعم الرجل التزاما واستقامة. أتذكره دائما بكل إعجاب وهو في الزاوية الشمالية الغربية من الزنزانة، وأصبحت تلك الزاوية طيلة الاقامة قبلة رفاقه الخمسة عشر. تغمده الله برحمته الواسعة”.
3. الوفاء. وللمعرفة والصداقة والعهد عند فاضل قيمة وذمة، وأي قيمة وذمة؟
ومن آيات الوفاء التي أشهد له بها، أنه كان لا يجد في جميع أطوار عزه، أدنى غضاضة في أن يقول أمام الملأ كلما لقي أحدا منا: هؤلاء هم أهلي الذين آووني فكنت في منزلهم أحد أعز أبنائهم. وكان يؤكد على ذلك لآل بيته خصوصا!
وقد من الله علينا؛ إذ لم نحتج إلى تفعيل تلك الذمة إلا مرة واحدة حين توفي أخوه الزعيم محمدٌ ولد عابدين (بدن) عليه رحمة الله، في إسبانيا بداء كوفيد. فعز علينا أن يدفن هنالك وأن لا يدفن في مدفن العائلة بمقبرة احسي السعادة، وكان في ذلك حرج كبير في تلك المرحلة من تطور الوباء. فلم يتلكأ فاضل، ولم يتهرب؛ بل استعمل جميع ما لديه من نفوذ حتى حقق لنا ذلك الرجاء بإذن الله. وليس ذلك فحسب؛ بل ظل مرابطا في بيت العزاء ثلاثة أيام رغم مرضه وضعف مناعته ومدى خطورة تفشي العدوى!
وكانت آخر الرسائل النصية التي تبادلناها أثناء اشتداد مرضه، التالية:
“أخي وصديقي الفاضل محمد فاضل ولد الداه، بعد فائق التحية والتقدير، أخبرني سيدي هذا المساء بأنكم تتعرضون لوعكة صحية. وإني لأرجو لكم من الله الشفاء العاجل الذي لا يغادر سقما. إنه سميع مجيب. تحياتي الحارة إليكم، وتمنياتي لكم بالشفاء والتوفيق. صديقكم محمدٌ ولد إشدو”. 5 نوفمبر 2022.
فرد يقول في 6 نوفمبر 2022.
“شكرا لاتصالكم ودعواتكم الكريمة. حفظكم الله من كل مكروه”.
وفي 11 نوفمبر 2022 كتبت إليه “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
كيف حالكم؟ وهل شفيتم مما عانيتم منه في الأيام الأخيرة؟
أتمنى لكم الشفاء العاجل الذي لا يغادر سقما.
تحياتي.
محمدٌ
فرد علي بتاريخ 18 نوفمبر2022 يقول: “وعليكم السلام، شكرا لاتصالكم ودعواتكم الكريمة، أما علتي أنا التي أحمد الله عليها ولا أشكوها إلا لله فهي ليست من النوع الذي يشفى بتلك السرعة؛ إذ هي ابتلاء مزمن أعالجه منذ سنوات، أو كما قال المرحوم همام الشيب والأسقام اتحماو اعليَّ..
أدام الله عليكم نعمة العافية وحفظكم من كل مكروه”.
فكتبتُ إليه: “بعد التحية والتقدير، فمما لا شك فيه ولا ريب أنكم تدركون وتؤمنون بأن الله على كل شيء قدير! وما دمتم تثقون فيه ولا تشكون إلا إليه، فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون! فالله أكبر من كل شيء؛ وخصوصا الشيب والأسقام! فلا بأس طهور.
وإذا كان من الممكن أن أقوم بعيادتكم، فأنا على أتم استعداد. ولا حاجة لي إطلاقا غير زيارتكم والاطمئنان عليكم.
تحياتي”.
وقد اطلع على الرسالة ولم يرد! وقيل لي يومها إن صحته لم تعد تسمح له بلقاء الأحبة والأصدقاء!
ودأبت على إرسال بعض النصوص إليه، فيطلع عليها.
وقد أرسلت إليه إيجازا صحفيا أصدرته بتاريخ 6 /12/ 2022 قلت في فقرته الرابعة: “إن تأكيد المحكمة العليا الفاسد لقرار إحالة ملف العشرية (الذي تحدث عنه بعض الإعلاميين) سوف يكون بمثابة إلغاء للدستور. الشيء الذي يفتح باب الخراب والفوضى والانقلابات الوخيمة في الوطن، ويجرد رؤساء الجمهورية في موريتانيا من سلاح الحصانة الذي يخولهم الدستور إياه. ولا يعقل أن يسعى عقلاء يريدون الخير لهذا الوطن إلى فعل كهذا مهما كانت الدوافع والأسباب والضغوط!”
وكتبت إليه ما يلي: بعد التحية والتقدير والتمنيات بالشفاء التام. أرسلت إليكم إيجازا صحفيا كتبته بالأمس، أرجو أن تنظروا الفقرة 4 منه بانتباه. فهناك مؤامرة على الوطن!
وقد اطلع على الإيجاز وعلى الرسالة، ولم يعلق! ألأن وطأة المرض اشتدت عليه، أم لأنه لم يجد منفذا فسكت؟ ربما يحمل إلينا المستقبل جوابا شافيا على هذا السؤال!
وكانت آخر رسالة تلقيتها منه تلك التي يرد فيها على تعزيتي له في مصابه الجلل بوفاة وحيده صلاح الدين، رحمهما الله. كتبت إليه:
“أخي وصديقي العزيز محمد فاضل ولد الداه،
علمت ببالغ الأسى والأسف بانتقال نجلكم الكريم إلى رحمة الله.
وكنت أود أن ألتقي بكم في هذه المناسبة الأليمة لأقدم لكم واجب العزاء والمواساة، ولنتحدث عن ذكرياتنا وما مَنَّ الله به علينا من فضله، واختيار الله لنا الذي هو خير من اختيارنا لأنفسنا، ونحمد الله معا على فضله ورحمته. ولكن ما باليد حيلة؛ إذ قيل لي إنكم في فرنسا، بينما أنا عالق في هذا المنكب البرزخي.
آجركم الله في مصيبتكم، ورحم فقيدكم، وألهمكم الصبر والسلوان. إنه سميع مجيب.
تحياتي إليكم وإلى الشريفة المصونة والدة الفقيد، وإلى جميع أفراد الأسرتين الكريمتين.
محمدٌ ولد إشدو”
فرد بما يلي: “شكر الله سعيكم وجزاكم الجزاء الأوفى”.
ذلكم هو محمد فاضل ولد الداه، أو – على الاصح- شيء من محمد فاضل ولد الداه، ومن عصر محمد فاضل ولد الداه!
يقول تميم ابن مقبل في موقف مماثل:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر ** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم.
أما نحن فإن عزاءنا، ما دام الخلود الجسدي مستحيلا، هو قول شاعرنا:
فما مات من أبقى ثناء مخلدا ** وما عاش من قد عاش عيشا مذمما.
رحم الله محمد فاضل ولد الداه، الإنسان والفتى والمناضل والمثقف، وأسكنه فسيح الجنان وألهم ذويه الصبر والسلوان.