صدقُ الرئيس.. وكَذِبهم..!! / بقلم : شيخنا ولد محمد حجبو
السبت 19 مارس 2022 ( الهدهد . م.ص)
شكل حديث صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أمام الجالية الموريتانية في المملكة الاسبانية منعرجا تاريخيا وحالة أستثنائي ة في درجة الصدق والمكاشفة مع المواطن والمجتمع ،فلأول مرة في تاريخ النظم والحكام الذين ساسوا هذه الدولة وتعاقبوا على هذه الأرض يرسم رئيس لوحة في التشريح الواقعي والنادر بالصٍدقِ والشفافية لحال بلده (غناه وفقره)،مفككا عقدة الغنى والفقر ، مُبينا زيف الأول وتجذر الثاني وقوة استفحاله واتساع قاعدة انتشاره ،ومُصاب السواد الاعظم من المغلوبين على أمرهم به .
وضح فخامته كل ذلك من خلال حديث لا يُخفي صاحبه مرارة سوء الوضع ،ومسكون بهم انتشاله،يراجع القهقري ليرفع جدارا سميكا من تضليل الناس واشغالهم وإسكاتهم بالوهم (البلاد غنية ) عبر عقود من الزمن ،ظلوا طيلتها ضحية أنظمة التفاهة المتعاقبة وزبانيتها الحاجبة لكل واقع مزري ونهب مُمنهج وفساد مُستشري ، همها الوحيد تلميع كل تافه من مُنجز تنموي لا يُغير شيئا من حال اغلبية عريضة من المجتمع،وتحول دون رؤية اي نفق قد يؤدي إلى كشف حقيقتها ويرفع الزيف عن تضليلها وينبه ولي الأمر إلى هول الواقع المُحفل كذبا ونفاقا ،فيبادر بتلافي ما أمكن تلافيه من حال المجتمع وإصلاح الوضع، وفي نفس الوقت تستنكر هذه الزبانية الحاجبة اي احتجاج للناس على هول الوضع إن لم تصفهم بالخيانة والعمالة وتُسوِق ذلك لصاحب الأمر فيغض الطرف وتصرف ذهنه نحو تفاهات أخرى احْبك التضليل بها .
،وهكذا تستمر في حجب الحال السيئ للناس وتسوق احتجاجاتهم ان حصلت بأنها شأن مُعارضِِ ،وما كان الناس ليحتجوا لولا ان قيل لهم ( بلادكم غنية) ،وهم لا يرون هذا الغنى مُنعكسا على اوضاعهم الاجتماعية …الخ .
عندما يتحدث السيد الرئيس هكذا أمام الجالية في أجتماع مفتوح كالذي تابعناه ويقول دولتكم فقيرة ،ويتساءل من قال ان دولتكم غنية ؟ ويرد ليست غنية ، هي دولة فقيرة والمواطنون يعانون الجوع والكثير منهم لا يتوفر على المياه الصالحة للشرب ولا على الكهرباء ،وليس طالبي الصدقة الذين ينتشرون في الشوارع بالمترفين بل لان العوزَ اخرجهم من مساكنهم لانهم يتضورون جوعا ويطحنهم الفقر المدقع،فلم يستطيعوا تحمل التعفف رغم انه سجيتهم، ويضيف السيد الرئيس تاكيدا على فقر الدولة عندما
يقول دولتكم صنفتها الامم المتحدة بالدولة الفقيرة.
عندما يتحدث السيد الرئيس بهذا الحديث ،فهو لا يريد تيئيس الناس ولارسم لوحة من التشائم ،كلا ،بل أراد أن يضعهم في الصورة الصحيحة
عن حال بلدهم ،وهو هنا صريح مع نفسه وابتغي الصراحة مع شعبه .
فهو لا يريد أن يكسب الأغلبية من شعبه بالتعتيم والتضليل ،وإنما أراد أن يكسبها بالصدق والوضوح لتكون مطلعة على حالها وحال بلدها وتستعد للدخول في معركة التغيير والإصلاح المنشود ،التغيير والإصلاح الذين تعهد بهما وشرع منذ توليه مقاليد الامور تهيئة الظروف لتحقيق وتنفيذ ما تعهد به لشعبه ، حيث وُفِق رغم التحديات التي واجهته في انجاز الكثير من تلك التعهدات ولولا الجائحة وفقر الدولة لكان المُنجز باضعاف ما تم حتى الآن .
فالحديث عن فقر الدولة جاء في سياق تقييمي لحال البلد أمام كوكبة من ممثلي جالية تتطلع لما هو احسن لبلدها وتضع باللائمة على النظام وهي لا تعرف طبيعة الحال وما هو في الإمكان ولا تشعر انها هي الأخرى مسؤولة عن تحسين حال بلدها بما تضيفه من خير له عبر جهدها في الخارج .
فأراد السيد الرئيس ان يضعها في الصورة ويستنهض هممها الوطنية والقومية إتجاه بعضها و اتجاه البلد لأنها ليست كغيرها من المواطنين بحكم تواجدها في الخارج وما اكتسبته من وعي وتجربة وعلم ومعرفة بحال الامم والشعوب ،هذا واحد من أوجه حديث السيد الرئيس ابتغى التنبيه اليه والاستثمار فيه .
ان حديثا كهذا من رئيس يسوس البلاد منذ فترة ليطرح كم من نقطة استفهام على مستوى الفهم الذي تعامل من خلاله الجميع معه طيلة ما فات من ماموريته..؟
فالظاهر ان الأكثرية لم يستوعب السيد الرئيس لا من خلال خطاباته ولا من خلال مصطلحاته والجهاز المفاهيمي الذي جاء به وبه تميز (فتعهداتي )و ( للعهد عندي معنى )و ( تآزر ) ( برنامج اولوياتي واحد ، و اولوياتي اثنان )و (الإقلاع الاقتصادي )…..الخ، هي حزمة من المصطلحات والمفاهيم البسيطة والعميقة الدلالة ولكن رغم بساطتها وشيوعها عند الناس الا انها كانت عصية على الفهم لأنها لا تخرج من رئيس عادي له برنامج انتخابي، متلهف لانجازه ليتقدم إلى الناس رغبة في إعادة الثقة مرة أخرى بل تخرج من قائد ،وما يخرج من القادة عادة ما يكون للتاريخ والمستقبل لا للحظة الآنية ،لانه يخرج من شخص ينظر لمستقبل شعب وبلد يحس بضياعه، ويرى مسار انكساراته، إن لم يجد مرشدا أو رشيدا ينقذه ويؤسس له مستقبلا ضامنا لعدم الضياع ،لذلك كانت المصطلحات والمفاهيم التي تخرج من القائد ذات هذا المغزي وهذا المقصد ،لأنها مصطلحات ومفاهيم تخرج من شخص يريد مسح الطاولة وينبش في حال الأكثرية المطحونة ويسكنه هاجس بناء دولة الجميع ،الدولة التي تستطيع الصمود أمام كل المتغيرات .
ومن هذا المسعى نفهم جانبا مهما من حديث السيد الرئيس أمام الجالية وهو الجانب المتعلق بالفقر ،ومن هنا يظهر مدى تقدم صاحب الفخامة في الرؤية والتفكير على الناس والمجتمع وخاصة الأكثرية من اصحاب الصف الأول المعنيين بالتنفيذ ،تنفيذ البرامج
واستيعاب المصطلحات والمفاهيم أولا حتى يدركوا الأفكار التي تصدر عنها تلك البرامج الهادفة إلى تغيير حال الناس وبناء الدولة الوطنية القوية .
عندما يقول القائد هذه” تعهداتي ” لك أيها الشعب ” وعندي للعهد معني ” فإنه يشد انتباه شعبه ان ما يلمح اليه أبعد من الفهم التبسيطي واعمق من كونه مجرد تعهد بتحقيق برنامج سياسي ،وعندما يسمي مؤسسة تعنى
بتحسين حال الناس ” بتآزر ” وتكون هذه المؤسسة وريثة لأخرى كانت تسمى بالتضامن فإنه يقلع من مستوى من التدبير على الناس (التضامن )إلى مستوى آخر ( التآزر ) أكثر انصافا واعمق أثرا واوسع مجالا وأكثر استجابة لحال المواطنين الذين صنف دولتهم بانها فقيرة ، والفقراء لا يكفي التضامن معهم وإنما يريدون التآزر ،لانهم ببساطة قد جربوا التضامن ولم يحرك من حالهم أكثر من الانتباه لوضعهم دون تغيير هذا الوضع .
ان مفهوم التآزر هذا، يتطلب مفهوما آخر حتى يكون مقنعا للناس ويفتح
الأمل الحقيقي بأن وضعهم سيتغير ،لذلك جاء مفهوم ” للعهد عندي معنى ” بعد مفهوم “تعهداتي ” فالتآزر كمفهوم أطلق على مؤسسة معنية بتخفيف الفقر محل الحديث طوق بمفهومين بعيديْ الدلالة والعمق أو بصيغتين بالغة الايحاء بصدق النية في تحقيق المطلب ،مطلب تخفيف الفقر والقضاء عليه في النهاية لان ذلك يتطلب ليس فقط اقلاعا اقتصاديا واحدا بل عدة اقلاعات ، ما دام الاكتفاء الذاتي لم يتحقق للناس الموصوفة دولتهم بالفقر الشديد ،ومن هنا يتبين أن حديث السيد الرئيس لم يكن لدعاية انتخابية ولا لرسم لوحة سوداوية عن واقع البلد لتيئيس اهله من إمكانية تحقيق الرفاه في المستقبل، ولا لإقناع البلد المضيف بالحاجة الماسة للدعم وتقديم الهبات كما يحلو للبعض التلويح به ،انما كان الحديث
لأهداف استراتيجية عميقة ، أبسطها الصراحة مع الشعب ووضعه في الصورة الحقيقة عن حال البلد وكسبه بالصدق لا بالتعميم والتعتيم والتلون
وتثقيف الجالية في الخارج بما عليها القيام به واستنهاض هممها للمساهمة في نهضة بلدها من خلال جلب العملة الصعبة والاستثمار فيه وخاصة
في رأس المال البشري وهي دعوة واضحة من سيادة الرئيس لعودة الخبرة المتحصل عليها والتجربة للبلد
لانه بحاجة لأدمغة ابانئه لقلة سكانه ولعدم مشمولية التعلم لغالبيتهم، فحديث صاحب الفخامة كان حديثَ صدق وغيره كان حديثه حديث كذب ، وهذا هو الفرق بينه مع أكثرية من سبقوه من الحكام للبلد الذين دأبوا على ذكر غنى البلاد رغم جوع أهلها ،والبلاد غنية حقا بثرواتها، ولكن هذه الثروات لم تخرج للنور، و ما خرج منها ،فعائده ضعيف ومنهوب على الدوام منذ عقود،ولو كانت الهبات والمنح التي قدمها ويقدمها الشركاء منذ قيام الدولة صُرفت ووُجهت لاستخراج هذه الثروات لكانت الدولة الموريتانية من أكثر دول المنطقة تقدما وازدهارا الآن ولما صح وصفها بالفقيرة ،أما والحال هذه فإن وصفها بالفقيرة أكثر من وارد ، والواصف اصدق شعبه في الوقت الذي كذب عليه الاخرون….