مقدمة بين يدي الاستاذ محمد يحظيه…/ بقلم احمد بن هارون ابن الشيخ سيديا
نواكشوط 22يناير 2021 ( الهدهد . م.ص)
اتفقت جماعةٌ من المُـكـثِـرين ذات ليلة على أن المهارة في بلدنا هذا تتجلى وتبلغ مُنتهاها في ثلاثة أحوال: عندما يبدأ محمد سالم ولد عدود إعرابَ بيت من شعر العرب؛ وعندما يهمُّ سيد احمد البكاي ولد عَوَّه بدخول الفايز؛ وحين يَنظُر محمد يُحظيه ولد ابريد الليل في وضع الدولة وتعثرات النظام!
وفيما يخص فقيد اليوم، الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، لا أظن أن باستطاعة أحد، في الوقت الحالي، أو في المستقبل القريب، أن يحيط ببُعد واحد من الأبعاد الذهنية والسياسية والحضارية المكوِّنة لتلك الشخصية المخضرمة، المُوغِلةِ في العُمْق والتميُّز وسَعة المعارف وتعدد المواهب والأدوات.
وغايةُ العارفين بالرجل، المدركين لمستواه، لا تتجاوز اليوم أداء شهادة شخصية في حقه، والتنبيهَ على حجم الفراغ الذي حصل في الحقل العمومي. على أن تتاح للمحترفين المتخصصين فُرَصٌ أخرى أرْحَبَ للغوص في فكره وتكوينه وآثاره.
وبالنسبة لي شخصيا، أُدرِكُ تمامَ الإدراك أني لست الأمثل للحديث عن الأستاذ. ذلك أن للرجل رفاقا وأصدقاء كُثْرًا، بارزين في السياسة والثقافة والكتابة. أما أنا فلم أكن يوما من رفاق الرجل، لا في العمل السري والمطاردات والسجون، ولا في المعتقد الأيديولوجي والقواعد المنهجية، ولا في الحركات والأحزاب، ولم تربطنا الروابط التقليدية الأخرى.
غَيْرَ أن الأستاذ محمد يحظيه – وهذه حقيقة طالما قُلتُها لغيره واستحيتُ أن أواجهه هو بها – أكبرُ وأوسعُ من أن يُحصر في تنظيم بذاته وفي أيديولوجيا بعينها. وهو، رغما عنه وعن ثقافته العالمية والتزامه الطويل بخطه البعثي الاشتراكي، يبقى ظاهرة موريتانية أصيلة، نحَتَتها هذه الصحراء وطبَعَها المجتمع بطابعه الصُّلب. وهذا مما زاد شخصيته ندرة، وصعَّب مهمة تعويضه.
سيتم الحديث في هذه الإلماعة عن الصور الأولى التي التقطتُها للأستاذ، وعن ثقافته وبعض كتاباته، وعن نخبويته وعمقه، وعن بعض نظرياته السياسية، وعن سيرته مع رؤساء الدولة، وسيرته مع اللغة العربية والإدارة، وسيرته مع السجون، وعن مدة وِلايته على الترارزة، وبعض طرائفه.
الصور الأولى:
لقيتُ الأستاذ، بلا ميعاد، في صيف 2007. ولم أزل من حينها أَزُوره بانتظام وأجالسه وأقرأ له وأقيِّد من فوائده وشوارده ونُكَتِه، إلى يوم الثلاثاء الخامس من يناير 2020، حينَ زرته على أساس موعد سابق، فوجدته قد أصيب في اليوم نفسِه بوعكة صحية مفاجئة أدت إلى رحيله بعد ذلك بأسبوع.
ولا أبالغ إن قلت إني لا أذكُر لقاء واحدا، من بين تلك اللقاءات التي قد تُعَد بالمئات، خرجت منه دون فائدة أو مزيد إعجاب وانبهار: بعُمقِه وعِلمِه وعَقلِه ولِسانِه وأدَبِه وسلوكه. ولا أبالغ أيضا إن قلت إني لم أرصد له خطأ في التحليل والاستشراف، أو في العزو للمصادر والمفكرين والساسة والقادة، أو في الأرقام والأسماء والتواريخ والأمكنة. كانت عند الأستاذ ذاكرةٌ خارقة وذكاءٌ حادٌّ، استثمرهما في الدقة وتحرى الأمانة.
ويجدر التنبيه هنا، ومن باب استكمال الصورة، على أني لقِيتُ كثيرا من علماء موريتانيا ومثقفيها ومؤرخيها، لكن ليس الحديث هنا عن المعرفة العامة، إنما الحديث عن الثقافة السياسية والمهارة في الشأن الوطني.
حصل اللقاء الأول مع الأستاذ في ندوة حول الديمقراطية الموريتانية، دُعيتُ لتنشيط أحد محاورها. والغريبُ أن محاضرتي كانت رسمية تتعلق بالجوانب الدستورية للموضوع، وقد ألقِيَتْ في الصباح. بينما كانت محاضرة الأستاذ ثانوية ألقِيَتْ آخر النهار، بعنوان التحديات الاستراتيجية للديمقراطية الموريتانية. والأغرب من ذلك أني لم أسمع قبل ذلك اليوم اسم محمد يحظيه ولد ابريد الليل ولم أقرأ له.
عندما بدأ الأستاذ يحاضر حكمتُ على محاضرته بالضعف، وخُيِّل إليَّ أنه يتحدث لهجة حسانية مترهِّلة، فتوجهت إلى آخر المقاعد وبدأت حديثا جانبيا مع صديق لي كنتُ قد دعوته للندوة المذكورة. لكنْ، وبعد لحظات، بدأتْ تطرق المسامعَ جملٌ وأفكار دقيقة تتعلق برحابة وهشاشة الأرض التي نسكنها، وعدد السكان، وبعض التشَوُّهات الخِلقية للدولة، وفوائد المحيط ومخاطره، وصعوبة تحصين الحدود النهرية والصحراوية، وقواعد في الباب وخلاصات مُرَكَّزة معزوة لعباقرة الميدان، ويرجع معظمها للاستراتيجي البروسي كلاوزفيتش (Clausewitz).
كان الأستاذ معجبا بأب الاستراتيجية الحديثة كارل فون كلاوزفيتش، ومهتما بقوانينه الحربية ونظرياته القابلة للتطبيق في عدة ميادين من أهمها السياسة. وقد بلغ به ذلك الاهتمام حد القيام، في جهد جهيد، بتلخيص وترجمة الكثير من دروسه وتوزيعها على المهتمين من أصدقائه. لقد كان ذلك الملخص رائعا: يزيد العقل ويقوي الذهن وينظم الأفكار.
سألت جليسي مَنِ المُحاضر؟ فقال هذا ولد ابريد الليل. فقلت ومن ذاك؟ قال هو الزعيم السياسي المشهور ومؤسس حزب البعث الموريتاني. وبعد انتهاء المحاضرة توجهت إلى المنصة وسلّمت على الأستاذ، وعبَّرت له عن إعجابي بالكلمة وبموضوعها الفريد؛ ثم طلبت منه لقاء فوعدني به ونفَّذ وعده بعد أيام.
خلال أول جلسة مع الأستاذ قلت له إني مهتم بالأمر العام وراغب في ممارسة السياسة، لكن عندي عوائق من أهمها نظرة المجتمع السلبية للشاب المسيَّس؛ وعدم الرضا عن المناهج التي ينتهجها من يسمون الموالاة؛ وعدم الاقتناع بأداء المعارضة وقدرتها على الإنتاج وإعادة توجيه الأمور. إضافة إلى النقص الحاد لدي في المعلومات والصورة العامة.
ألقى الأستاذ محاضرة وتحدَّثَ حديثا حكيما منَظَّما، مشحونا بالمعلومات والأفكار العميقة والنُّكَت الهادفة. وكان مما بدأ به حديثه أنَّ مَن لم يمارس السياسة في سِنِّ الشباب سيجد – لا مَحالةَ – صعوبةً في استيعابها. أما أولئك الذين لا يهتمون بالسياسة إلا بعد ظهور الشيب، فإنهم يفهمونها – في الغالب – فَهْمًا مقلوبا ويُطبِّقونها مقلوبة، وضرب لذلك أمثلة حية!
وقال إن الساسة صاروا يؤجرون على سياساتهم وينتظرون الأوامر، بينما كانت السياسة قبل ذلك عبارة عن تضحيات ومخاطر وقناعات، وتلك هي المعاني الحقيقية والأصلية لهذه الحِرفة الرفيعة. وأضاف أن للسياسة الأصيلة عائقين، بدونهما يرجى للمهتم التوفيق والنجاح. أما العائق الأول فهو أن يمارس المرء السياسة، لا يمارسها إلا لجيبه. والثاني أن يكون المرء متصلا بوزارة الداخلية، إشارة منه إلى التجسس!
ثم تطرق الحديث للوضع السياسي القائم، وذكر الأستاذ أن النظام القائم آنذاك لم يحكم بعد، وربما لن يحكم في المستقبل، وأنه يتوقع سقوطه بطريقة غير جيدة، يظل بعدها يعتبر نفسه مظلوما، مع أن المتأمل لطريقة ترشيحه وبدايات وصوله للحكم قد لا يتفق معه في مظلوميته.
ثقافة الأستاذ وكتاباته:
بعد ذلك بمدة قصيرة، نشر الأستاذ سلسلة مقالاته الرائعة “تفاديا للعار” التي غيرت مسار النظام. وقد تحدَّث فيها عن حالة البلد وإدارة النظام والحكومة له، وعن جيش المستشارين الرئاسيين الأكفاء. كما تحدَّث عن المعارضة وعن الخيارات المتاحة. وقد أظهر في هذه السلسلة من التمكُّن السياسي والأدبي والثقافي والسوسيولوجي، وجَلَبَ من أساطير الأمم وثقافاتها، ومن تاريخ وجغرافيا المجتمع، ومن النظريات الاستراتيجية والسياسية، ووظَّف من صيحات الإعلاميين الشباب ما لا يدخل تحت حصر. كل ذلك بأسلوب عميق جذاب، وبخيط فكري متماسك. حتى إن القارئ النهم طويل الباع لَيجزم أنه أمام أسلوب تحريري فريد، لا يوجد مِثلُه في بلادنا.
ولما كان الأستاذ قد شرفني بترجمة إحدى حلقات السلسة المذكورة، استطعتُ أن أرى عن قرب أن الرجل كان من الكُتَّاب القلائل الذين لا تذهب الترجمة بروح نصوصهم ولا تؤثر في قوة سَبْكهم. وعندما اتصل بي بعد ذلك بسنوات يريد ترجمة حلقة من سلسلة أخرى بعنوان “موريتانيا وأزواد”، سألته أخيرٌ ذلك؟ هل قررتم إسقاط النظام؟ قال بل أريد مساعدته هذه المرة! وعندما جئته بالنص المترجم سألني ما رأيك في المقال؟ قلت له: ليس هذا مقالا، وإنما هو سحر. كان يحرر بأسلوب خاص مُتقَنٍ، تمتزج فيه رؤية موريتانية بذِهنية شرقية ومنهج غربي، لم أعثر له بعد على مثيل!
في تلك السلسلة طرح محمد يحظيه جزءا من نظريته السياسية الأصيلة حول “موريتانيا العميقة”، والتي تلتبس – بالمناسبة – على البعض مع مصطلح آخر سطحي استُخدم بكثرة في الأيام التشاورية المنظمة سنة 2009. لكن لا مماثلة بين المصطلحين.
إضافةً إلى مقالاته الطويلة والمركَّزة، كتب الأستاذ سلاسل روائية رائعة لم يُترجم أغلبها – للأسف – إلى العربية. أذكر منها: (CADAVRE SUR LA DUNE) وهي رواية مستوحاة من حياة امحاصر البيضان. و (AOUEILIYENE LE SOLITAIRE) وهي قصة واقعية عاشها البطل المذكور في صحراء تيرس. و (LES CHAMEAUX QUI RIENT) وهي رحلة واقعية عاشها المؤلف نفسه.
ألف كتابا رائعا عن تأسيس وصعود الحزب الشيوعي الصيني. قال لي أحد الثقات إن الإعلامي اللبناني سامي كليب وصفها بأنه أنضج عمل عربي في الموضوع. نرجو ترجمة الجميع وخروج المذكرات كاملة ومترجمة.
بعد الاطلاع على الكثير من الإنتاج السياسي والروائي الرائع الذي كتبه الأستاذ ومجالسته، أيقنت أنني أمام كنز نفيس لا يقدر بثمن. فمثل هذا الرجل يحظى في كل دول العالم ومجتمعات الدنيا بعناية خاصة. أما البسطاء والمتخرجون للتو من الجامعات، والذين لا يفرق الواحد منهم بين الحوض وأفله، وبين آوكار وإكيدي، وبين آمساكه وتيرس، ولا يعرف الفرق بين بوياكي ولد عابدين وأحمدُ ولد حرمة، وبين محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح، ولا الفرق بين موسى فال والداه ولد عبد الجليل، وبين التيجاني ولد الكريم ومحمد الحسن ولد لبات، فإن الرجل هو فرصتهم الوجودية.
كان يَعْرِف البلد بسباخه وجباله وكثبانه معرفة مذهلة منظمة. ويعرف المجتمع، بقبائله وعائلاته وشخصياته، معرفة تفوق الوصف. وكان يخص بعض الخُلَّص بمعلومات خاصة عن المجموعات الأكثر تأثيرا، وكيف ومتى كان ذلك؟ وما هي الشخصيات التي كانت سببا في ذلك التأثير، وإلى أين وصل ذلك؟
نظرتُ أيضا في ما كتب الآخرون عن صاحبنا، وبحثت في مختلف أبعاده وحقائقه. وسألت عنه عدة سياسيين، من بينهم خصوم له. وسألته هو في إحدى الأمسيات الرياضية سؤالا خاصا ومباشرا، وربما كان غير مناسب، فقلت إن هناك من يتهمكم بالجهوية. فقال في هدوء تام ووقار: نعم، هذه من تُهم البسطاء المتكررة! لكنْ ألا يعلم هؤلاء أن من أكبر مآخذي على صدام حسين انحيازه للعراق دون بقية العرب؟
وأضاف قائلا: أنا لا أعير اهتماما لمثل هذه الاتهامات، ولا أرد على أي كتابة مهما كان مصدرها. لكني سأخصك بالقول إني لم أكتب مقالا واحدا خاليا من ذكر الشيخ سيديَ، والسبب في ذلك هو الإعجاب برؤيته السياسية وهِمَّته، فأي عهدي بيني وبين الشيخ سيديَ؟ وأي جهة من الجهات تجمعني وإياه؟
كانت هذه إحدى طرق الإجابة المعروفة لدى المثقفين المتمكنين. فعندما سألتْ إحدى الإعلاميات الشاعر الشامي الكبير نزار قباني ما هو الصوت العربي المفضل لديك؟ قال: فيروز طبعا. قالت: حسِبتُكَ تقول أم كلثوم. قال: حسبتكِ تتكلمين عن البشر! وعندما سألته عن شاعره المفضل قال: أبو فراس طبعا. قالت: حسِبتكَ تقول المتنبي. قال: المتنبي لا يقاس بالشعراء!
كان محمد يحظيه يعشَق أعلام البلاد من كل الجهات والفئات، وخصوصا المثقفين منهم. فكان يقول إن ثقافة الشيخ محمد المامي والمرابط محمذ فال ولد متالي مُحَيِّرة، لكثافتها وتميُّزها عن ثقافة أمثالهم من علماء البلاد. وكان يقول إن ذلك يرجع – لا محالة – إلى اتصالهم بالمحيط وحصولهم على مراجع وروافد ثقافية غير متاحة للغير. وكان شديد الإعجاب بخصال الكثير من أمراء البلاد وأعيانها، وفي مقدمة تلك الخصال الكرم.
نخبوية الأستاذ وعُمقُه:
كان محمد يحظيه نخبويا حقيقيا: في ذهنه وسلوكه وحديثه وتقاليده واستهلاكه. وكان يفكر في دائرة رفيعة. ولا يمكن لسياسي، أو مثقف، أو باحث، أو صديق، أو قريب أو بعيد، أن يسبر أغوار تلك الشخصية ويستنفد رصيدها السياسي والمعرفي. ولا أبالغ إن قلت إن أعمق الناس، حين يتحدث في السياسة أمام محمد يحظيه يصبح إنسانا في منتهى السطحية.
وكان يستوي عنده الأدب الفرنسي والروسي والإنجليزي والإيطالي، وروائيو أمريكا اللاتينية ومؤلفات طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران. ناهيك عن الفلسفة والتاريخ والفكر الإستراتيجي.
لا أعرف خصومَ الأستاذ ولا خصوماته – ليس ذلك من الأسرار التي اطلعت عليها – لكني لم أسمعه يوما يوجه إلى خصم سياسي بعينه كلاما غير لائق أو كتابة عدائية. وأظن جازما أنه كان متاحا لعامة الممارسين للسياسة في هذه البلاد، هواةً ومحترفين، أن يستفيدوا منه، حتى أشدهم خصومة له كان بإمكانهم ذلك.
يختلف معك الأستاذ ويتفق، وقد يبذل أدوات قوية في الانتصار لرأيه أو فرضيته. لكنْ مخطئ من يظن أن الخشونة والإساءة لجهة ما، والتسببَ في ألم شخص يمكن أن يكون هدفا لمن هو في مستواه من الوعي والشمولية والأدب والرقة. غير جدية الرجل وصرامته المنهجية تجعل البعض يحسبه متعصبا إقصائيا. لكن الحقيقة خلاف ذلك.
وقد ناقشتُه مرارا في مبحث تاريخي كنت مهتما به، وكتب هو عنه بطرح مختلف، مشحون بالصور الرائعة الملتقطة من جانب دون آخر، فأقر الطرح الذي دافعتُ عنه وأنصف الموقف التاريخي، قائلا إنه لا خيار أمام أصحابه، لأن الفرصة ضاعت أو ضُيِّعت قبل ذلك بنحو مائة سنة؛ ثم برر طرحه الذي قال إنه هو الأصل وهو المتماشي مع أمثاله مِمّن شَبُّوا في اليسار.
لا يولي الأستاذ محمد يحظيه اهتماما بالمال وليست عنده في جمعه موهبة، رغم ما لاقاه من ضيق ذات اليد. ولم يقبل يوما أن يتدخل لدى المسؤولين لصالح أي فرد من عائلته. ولأهله في ذلك قصص مثيرة ومعبرة.
كان محمد يحظيه يُحمِّل نفسه عناء الاجتهاد الدقيق في الأمر العام ومصير البلد. وكان يمتلك لذلك من الأدوات ما لا يملكه غيره! وكان من أدنى فوائده خروجه علينا، في كل مرحلة من مراحل التيه والحَيْرة، التي لا تُعَد ولا تُحصى، بكتابة أو خطاب يلخص ما جرى ويجري في بلادنا خلال سنوات، ثم يزودنا برأي واضح، ويتنبأ بما سيقع. كل ذلك بأسلوب ماتع ومنهج أصيل مسؤول ومعلومات قيمة.
أرجو أن يحظى البلد والساحة الفكرية والعلمية بمركز مميز للدراسات الإستراتيجية يحمل اسمه، أو معهد مدني أو عسكري، أو كلية أو قسم جامعي، وأن يخرج للتاريخ كتاب حول فكره وإنتاجه وشخصيته.
من نظرياته السياسية:
اخترع الأستاذ خلال تجربته السياسية الطويلة نظريات سياسية وقوانين للحكم في غاية الذكاء والنضج. أذكر منها، غير الذي سبق، أن تركيز حُكم موريتاني ما على البعد الأمني مؤذن بسقوطه. ومن قوانينه السياسية تشبيهه الوضعَ العام بالجهاز الوراثي، حيث يتم تخزين كل شيء، سلبيا كان أو إيجابيا، كبيرا كان أو حقيرا، في قاعدة بيانات. ولذلك ترانا نتفاجأ أحيانا من بروز عنصر لا نعرف مصدره، أو انفراج غير مُبرَّر، وتعَثُّرٍ غير مفهوم. وقليلٌ مَن يستطيعون تشخيص تلك الحالة ورَصدَ جذورها.
فالأمور في هذا المجال، يقول الأستاذ، غير محسوسة لكن تأثيرها كبير وواضح. ودَوْرُ بائعة المساويك والراعي البعيد في إسقاط وتثبيت النظام حاسم. حيث ينبعث البخار الضاغط ممن لا يكتبون ولا يقرأون ولا يعبِّرون إلى مستويات فوقهم، مرورا بطبقات متعددة من النخب الشعبية والاجتماعية التي تصوغه صياغة أحسن، ثم بالطبقات المتعلمة والإعلام والموظفين والحكومة والجيش والحاكم… ثم يسري ذلك ويصل الى أبعد النقاط دون أن يسقط منه شيء. يقول لك من لا يلم بالحقيقة: فلانٌ استولى على الحكم، وفلانٌ أسقط النظام. والحق ان الوضع هو الذي أوحى في أذن من فعلوا ذلك. ولم يتم تغيير واحد إلا والوضع العام هو الذي املاه وقرَّره.
سيرته مع رؤساء الدولة:
عرَف محمد يحظيه عامة رؤساء الدولة الموريتانية عن قرب، وله في الموضوع خبرة كبيرة وتجربة مباشرة، مما جعلني أطلب منه يوما كتابة رواية عنوانها “الرئاسة” نأخذ منها صورة أقرب وأعمق لما يجري في القصر الرئاسي، وليستفيد المتخبطون من الرؤساء والمرؤوسين.
أشار الأستاذ محمد يحظيه على عامة الرؤساء بآراء متنورة ومفيدة للبلد، تم تنفيذ بعضها وبقي البعض بلا تنفيذ. وقال لي إن الطلاق البَائن يقع دائما بينه وبين الرؤساء الحاكمين قبل مغادرتهم الكرسي؛ إذْ لم يترك رئيس واحد السلطة إلا بعد أن يفارقه الأستاذ. وكان يرى أن من واجبه إشعارهم بذلك. وأذكُر بالفعل أني سألته، بعد عودتي من رحلة مطولة، عن مستجدات السياسة، فأجابني بأنه حمَّل أحد المقربين من رئيس سابق رسالةً مختصرة مفادها أنه لم يعُد يسانده!
ومع أن من المتوقع خروج تلك الوقائع قريبا في مذكرات الأستاذ، إلا أن مما يجدر ذكره أنه كان يكره الحديث في حياته عن نفسه وعن إنجازاته، ولا أدري هل تحرَّج من ذلك في ما خلَّف من مذكرات. أتوقع أن يخرج شيء من ذلك دون إطناب. وكان أيضا يتحرج كثيرا من ذكر دوره في قرارات اتخذها رؤساء ما زالوا أحياء. ومع هذا كله لا بأس هنا بذكر طرَف قليل من تلك الاستشارات.
ولنبدأ برأيه المعارض لحرب الصحراء. فبعد الإصلاحات السياسية المشهورة التي تمت في النصف الأول من عِقد السبعين، لقي الأستاذ محمد يحظيه الرئيس المختار ولد داداه، الذي يُعتَبَر صاحبنا من أشد معارضيه. وحدثه المختار حديثا هادئا قال فيه، ضمن حديثه عن التعريب وأسفه على تأخيره والتدرج فيه: “نحن كنا وما زلنا كالغريق، نمسك كل ما صادفت أيدينا مما قد يكون سببا في نجاتنا. والغريق قد يمسك خشبة، وقد يمسك حتى أفعى! ثم التحق الأستاذ بحزب الشعب وعمل فيه بجدية ونشاط، في خلية يقودها الإطار الكفء البارز سال عبد العزيز، الذي جال معه صاحبنا في مختلف أنحاء البلاد. ويبدو أن عبد العزيز اكتشف مواهب الأستاذ وثقافته السياسية وخبرته في العمل الحزبي ومَلَكاته في التحرير والتعاطي مع القاعدة. وهكذا إلى أن جاء قرار حرب الصحراء الذي عارضه محمد يحظيه بشدة، على غرار عامة المنتسبين للحركات السياسية.
وقال في اجتماع حزبي مخصَّص للحرب إن هذا القرار خاطئ، مشبها موقفنا ومركزنا في تلك الحرب بطفل يلفُّ رقبته بحبل معقود “بالخِيّْرَه”، وهي عقدة سلسة يسهل شدها وتضييقها، ثم يعطي الطفلُ رأسَ الحبل لمن هو أكبر منه وأسرع، وينطلق الجميع في سباق معلوم النتيجة. كان ذلك بداية الخلاف مع حزب الشعب ومقدمة للانفصال عن النظام.
كذلك، نصح الأستاذ يحظيه الرئيس المصطفى ولد محمد السالك نصائح راشدة، كان من بينها تعيين أصحاب خبرة ونزاهة عملوا في النظام المدني، أذكر منهم محمد الحنشي ولد محمد صالح، الذي كان الأستاذ معجبا بصِدقه ونظافته وخبرته. وقد نصحني يوما بلقاء مجموعة من الشخصيات المرموقة ذات الخبرة الطويلة والسيرة الناصعة، كان في مقدمتهم محمد الحنشي، الذي وعدني صديقي ووليُّ عهده محمد البشير بترتيب لقاء معه. لكن الحالة الصحية لصاحب السعادة كانت في ذلك الوقت قد بدأت تحول بينه وبين الكثير من النشاطات.
نصح الأستاذ أيضا الرئيس المصطفى بتعيين عبد الله ولد داداه والاستفادة من خبرته الكبيرة، فعينه على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. كما طلب من جدُّه ولد السالك أن يعيِّن محمد ولد سيدي عالي ويحيى ولد عبدي والِيَيْن ففعل. وحاول الأستاذ بنفسه تعيين عبد الله ولد محمد سيديا، أول مهندس زراعي في موريتانيا، فشكره عبد الله واعتذر، لأسباب ذاتية.
لا يعلم الكثير من الناس أن محمد يحظيه هو الذي نصح الرئيس معاوية بمنح البلاد دستورا تعدديا متكاملا، وفي دفعة واحدة، مع ما يتطلبه ذلك من حرية الصحافة وحرية الترشح والانتخاب وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات. وقد كان هذا من باب المعجزات في ذلك الوقت، خصوصا لدى الذهنيات العسكرية؛ فكان رد معاوية في البدايات أن هذا ضرب من الجنون يستحيل تحقيقه.
غير أن الأستاذ يحظيه استطاع، وبمساعدة الدكتور لوليد ولد وداد ودداهي ولد عبد الله، أن يقنع معاوية بالقرار الذي بقي طي الكتمان، لا يعلم به غيرُ أولئك النَّفَر. حتى أعضاء اللجنة العسكرية، أصحاب السلطة في البلاد، لم يحصل لهم علم بالقرار قبل أن يسمعوه في خطاب عيد الفطر مع بقية المواطنين. وقد أصيب بعضهم جراء ذلك بهستيريا من الذهول والغضب.
كان الدكتور لوليد مديرا لديوان الرئيس وصديقا حميما للأستاذ، ولم يفتأ محمد يحظيه يحدث عن ذكاء لوليد وإيمانه بالدولة، واصفا إياه بأنه كتاب ثمين يصعب فتحه. أما دداهي ولد عبد الله، مدير مخابرات معاوية وابن عمه، فقد كان له سابق انتماء للبعث الموريتاني. وقد ساعد ذلك الانتماء في التخفيف من تعذيب الأستاذ وخشونة استجوابه في مناسبات سجنية معينة.
وهكذا كان محمد يحظيه يقول إن قوة القرار السياسي تكمن في كتمانه وتحصينه من الاختراق ، كما في هذه الحالة، وفي حالة تأميم ميفيرما، حيث لم يُخبر المختار وزراءه بالقرار التاريخي إلا الثامنةَ، ساعةً واحدةً قبل إذاعته لعموم الناس.
وفيما يخص أهمية القرارات السياسية المصيبة للهدف قال الأستاذ: “إنما يدور في قلوب الناس جدير بالاعتبار ويتعين على الساسة إدراكه وإخراجه إلى حيز الواقع، مهما كان مستوى غموضه وضبابيته. فهناك دائما، وفي كل مرحلة، فكرة مركزية ومطلب جماهيري عام، إن استجاب له الحاكم أقبلت عليه الناس، وإن أعرض أعرضوا.
وضرب الأستاذ لذلك مثالين مشهورين: الأول ما فعله المختار ولد داداه، عندما وجد نفسه في وضع سياسي صعب جدا، فنظر مِن حوله وعلِم أن الإجماع منعقد على ضرورة تأميم ميفرما فقرر تأميمها، لينقلب الوضع رأسا على عقب، وتُقبل عليه الناس إقبالا منقطع النظير، ويصير أشدهم معارضة له هم الأشد تأييدا.
وأضاف الأستاذ أن معاوية عرف في سنة 1990 وضعية أخطر من وضعية المختار المذكورة؛ فبحث عن الفكرة المركزية الكامنة في قلوب الناس، فلم يجد إلا الديمقراطية. مع أن مطلب الديمقراطية لم يكن معبَّرا عنه آنذاك بشكل صريح وقوي، وبنضالات حقيقية طويلة النفس. لكنه كان، رغم ذلك، حاضرا بقوة في قلوب الناس.
إن الناس، يقول الأستاذ، لا يعرفون دائما كيف يعبِّرون عما في أذهانهم، لكن استنطاق ذلك من مهام أولئك المنتصبين للممارسة السياسية، ولعله من أعظم مهامهم! نحن إذاً نحتاج معرفة القضية المركزية في واقعنا هذا. وأنا لم أجد إلا قضية واحدة، هي التي عبر الجميع عنها اليوم. إنها لم تعد مبهمة. إنها التغيير !
نصح محمد يحظيه الرئيس محمد ولد عبد العزيز، في الأسبوع الأول من حكمه، بأن يقتحم، بشجاعة وإقدام، الأحياء الشعبية وأن يقوم بتخطيطها وتوزيعها على المستحقين، قائلا إن الأغلبية الساحقة من الموريتانيين ترتبط بهذا الموضوع ارتباطا وجوديا مباشرا، مشيرا إليه بالبحث لتلك المهمة عن شخص كفء مؤهل لها. كما نصحه نصائح أخرى من بينها أن يترك الجيش على حاله واستقراره، وذلك عندما أبلغته جماعة مقربة من محمد ولد عبد العزيز أنَّه قرَّر إبعاد الجنرال محمد ولد الشيخ الغزواني عن قيادة الجيوش، بناء على نصيحة منهم ومَساعٍ حثيثة، سبق أن طلبوا من الأستاذ نفسه المساعدة فيها. فما كان من محمد يحظيه إلا أن طلب على عجل لقاء الرئيس ونصحه النصيحة أعلاه.
كذلك، نصح الأستاذ الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بل نصح الدولة كلها والجيشَ، بعدم الاستجابة للضغوط الداعية إلى إقحام القوات المسلحة في حرب يحضَّر لها في أزواد ضد الأزواديين أنفسهم، على حد تعبيره. وذلك في سلسلة مقالاته المشهورة “موريتانيا وأزواد”. وقد لقيه ولد عبد العزيز بعدها مباشرة وفتح معه الموضوع.
يصنِّف محمد يحظيه الرؤساء والوزراء والضباط والتشكيلات السياسية والشخصيات الوطنية، من حيث النضجُ والعمق. وكذلك طبقات الموظفين العموميين وأسلاكَهم تصنيفات خاصة، ويَروي عنهم مرويات طريفة، ويحكم على فئات منهم أحكاما دقيقة. وكان من نظرياته السياسية أنَّ حكم البلاد وتسيير الشأن السياسي بذهنية الموظف وروحِ الوظيفة مأساة حقيقية !
كان للأستاذ رأي مفصل وتصوير مُعَمَّق لوضع وسلوك النظام الحالي، الذي كان مطلعا بالتفصيل وبالمعلومات اليومية على ما يدور في أعلى أجهزته. وأذكر يوم قال لي، بعد أشهر من التشخيص والتحليل: لقد أوقفت قراءة النظام. لقد اتضح كل شيء! ليبدأ بعد ذلك تفصيل الأمور وتلخيصها وتحديد السيناريوهات المستقبلية. وعندما سألته لِمَ لا تُنير الرأي العام بكتابة في الموضوع؟ أجابني أجوبة مقنعة، كان آخرها أنه لم يعد يولي كبير اهتمام للتحركات التكتيكية، وأن الخطوات القادمة ينبغي أن تكون استراتيجية. وبالفعل قدَّم الأستاذ رِجْلا في اتجاهين، أحدهما استراتيجي، والآخر سياسي.
قال الأستاذ إن الأنظمة الموريتانية صارت، ابتداء من النصف الثاني من عهد معاوية، يلتبس عليها الرجل الصالح لمنصب وزير الخارجية، بالرجل الصالح لإدارة شركة الكهرباء أو قيادة الحزب الحاكم! وأن صفتي الكثافة والمسؤولية لم تعودا مطلوبتين لأعضاء الحكومة.
كان يقلب يديه عجبا حين يعلم أن موظفين سابقين، ممن لم يكن لهم يوما رأيٌ، ولم يدخلوا طيلةَ أعمارهم هَمًّا عاما ولم يحملوا أو يشاركوا في مشروع وطني، قد نشروا مذكراتهم، متسائلا عما عساهم يكتبون؟
سيرته مع اللغة العربية والإدارة:
أداء محمد يحظيه الوظيفيُّ، وخدمتُه اللغةَ العربية، ودورُه في تعريب التعليم والإدارة والسياسة، وإقناعُه رؤساءَ ووزراء وضباطا، كانوا بعيدين كل البعد من العربية وصارت هي أحب الأشياء إليهم، ليبذلوا جهودا كبيرة في سبيل تعلُّمها والخطابة بها، رسميا وشعبيا، أمرٌ معلومٌ وقصة طويلة.
وله حادثة مشهورة مع الدفعة الأولى من الإداريين المعرَّبين، الذين وجدوا أمامهم أبوابا موصّدة، ومديرا للوظيفة العمومية، يقول بكل بساطة وبراءة، إنه لا يستطيع اكتتاب إداريين معرَّبين! وعندما طرحوا مظلوميتهم على محمد يحظيه، المكلَّف للتو بحقيبة الوظيفة العمومية، أصدر أمرا واضحا للمدير باكتتابهم. لكن الأستاذ غادر الحكومة قبل انتهاء مسطرة الاكتتاب، لتدخل عليه الجماعة نفسها بعد ذلك بمدة في مكتبه بالأمانة العامة للرئاسة ويأمر بإنصافهم وإكمال المسطرة.
حكى لي يوما أن من أشد أوقات السجن تأثيرا عليه حين لاحظ أن ضباط الشرطة الذين يستجوبونه في إحدى محطات التوقيف السياسي كانوا كلهم معرَّبين – عَرَف ذلك من خلال ألسنتهم، إذْ كانوا مقَنَّعين – وأضاف أنه كان يسعى طيلة شبابه ويحلم بأن يصِل المعرَّبون إلى أصغر دَرَكَات الشرطة، واليوم وقد وصل المعرَّبون إلى أعلى تلك الدَّرَجات هاهم يستجوبونه بخشونة وحماقة !
سيرته مع السجون:
كان للأستاذ دور كبير في ترشيح وإدراج مدننا التاريخية ضمن برنامج مواقع التراث الإنساني العالمي الذي تديره اليونسكو. وشاء الله أن يسجن سجنا انفراديا في مدينة تيشيت التاريخية، وفي ظروف معيشية ومناخية صعبة لا يرى فيها إلا الخفافيش.
سُجن إحدى عشر سجنا سياسيا، سِيمَ خلالها سوء العذاب وأصناف المشقة والإهانة. ولا أعلم موريتانيا سجن بسبب آرائه السياسية وقناعاته هذا العدد من السجون. والأصعب من ذلك والأندر في نخبنا، أن محمد يحظيه ضحَّى في سبيل قناعاته بوظائف سامية رماها عُرْضَ الحائط، منها منصب وزير، ومنها منصب أمين عام للرئاسة.
وِلاية الأستاذ على الترارزة:
ولِيَ الأستاذ ولاية الترارزة فعرفها معرفة دقيقة ووطَّد العلاقات مع كثير من رجالها. وارتبط ارتباطا عاطفيا بشيوخ المحاظر، خصوصا المحاظر الحَسَنية التي كثيرا ما صرح بانبهاره من مستواهم وسلوكهم وتأملاتهم. وكان يذكر على وجه الخصوص لقاءات جمعته بالعلامة الشيخ أحمدو ولد محمذ فال، الذي قال إنه يلبس لباسا بسيطا ويجلس طول النهار لا يكاد يأكل أو يشرب، ويعلِّم جميع أنواع التلاميذ دون أن يفتح كتابا واحدا. وكان يصفه بالفيلسوف، بل يشبه كلامه بكلام كونفشيوس. وقد سجّل المعزون القادمون من تلك النواحي الكثير من مظاهر اهتمامه بتلك القرى والمحاظر أيام الجفاف، كتقديم الإبل الجزور وجِمال السقاية والسيارات المملوءة بضروريات الحياة.
كذلك كان الأستاذ صديقا حميما للأمير أحمد سالم ولد سيدي والشيخ محمذ ولد محمودا، ومعجبا بفلسفة وتأملات المرابط محنض بابه ولد امين، الذي استوحى منه شخصية محنض المحورية في روايته الرائعة “جيفة في سِقْط اللِّوَى”. وكان صديقا للمختار ولد الميداح ومعجبا بمحمد ولد الشويخ ونمط حياته وصرامة أسلوبه. أما محمدٌ ولد سيدي إبراهيم وهمام ولد المختار فال فقد جمعه وإياهما ميدان الإعلام ومشاكل النقابة، فضلا عن الصداقة. وله مع الجميع ذِكَر شائقة ونبيلة.
لقد كانت علاقات محمد يحظيه بكبار رجال الفن خاصة ومميزة. ذكر لي قصصا له كثيرة مع محمد ولد بَوْبَّه جدُّ العم، ولالة بنت اعلي خدجة ومعلومات وحِكَما وطرائف استوحاها منهم.
من طرائف الأستاذ:
دعاباتُ محمد يحظيه وطرائفُة عميقة ومُعبِّرة، على غرار كبار الساسة والمثقفين الكلاسكيين. وكثيرا ما يُعَبِّر بطرق مسرحية أو تراثية تجعل أكثر الناس جدية وجلافة يستسلم للقهقهة.
قلت له يوما إن محمد المصطفى ولد بدر الدين ليس بالشخص البسيط. فقال: كيف يكون بسيطا وهو الذي انتقل، في وقت قصير، من مَحاظر التَّجَالْ إلى قيادة الماركسية!
وقال إن صديقته المقربة لالة بنت اعلي خدْجَه كانت يوما في بيته، وكان معه بعض رجال السلطة الحاكمة آنذاك، لعل من بينهم عسكريين – إذْ كانت لالة يومئذ تعد نفسها من أعضاء اللجنة العسكرية – قال إنه دخل عليهم رجلٌ مهمومٌ وأخبرهم أنه شاهد ثلاثة من أعضاء اللجنة العسكرية، وقد توقفوا على جناح السرعة ونزلوا من سياراتهم ووقفوا في مكان غير مناسب من الشارع، مما يوحي بأنهم يخططون لشيء خطِر، قد يكون قلبا للنظام أو شيئا من نحو ذلك. فقالت لالة: لا تهتموا بالأمر، أنا أنبِّئُكُم بما يدور بين أولئك الضباط: إنهم يتخاصمون حول نصيب كل واحد منهم من الإسعاف! وبالفعل تبيَّن فيما بعد أن القمح كان هو موضوع الوقفة !
لقيته يوما مَقْدَمَه من رحلة طويلة إلى البادية، وكان ذلك بعد تعيين محمد ولد الشيخ الغزواني للمهندس إسماعيل ولد بَدَّه رئيسا لأولى حكوماته، فسألته ما رأيكم في تعيين صديقي؟ قال: إنه كَراكِب بَكْرةٍ غير مروَّضة (ماهي مُسَادْبَه)، لا هو يستطيع إيقافها أو توجيهها، ولا يعرف إلى أي شجرة وفي أي حفرة ستُودي به. ولكي يقفز من فوق ظهرها قفزة سليمة سيحتاج مستوى عاليا من البراعة والتخصُّص !
حكى لي يوما أن الراحل أحمد الوافي ذهب بعد انقلاب 1978 في وفد رسمي إلى ليبيا بحثا عن المساعدة. وكان القذافي قبل ذلك يضيق ذرعا بقلة حديث الرسميين الموريتانيين، الذين كانوا يتحاشون الخوض في كثير من الموضوعات الخارجة عن مهامهم. وذلك لعدة أسباب، منها عامل اللغة، حيث كان أغلبهم فرنسي التكوين، وكان الجيل الأول من الموظفين يخشى الوقوع في أخطاء بروتوكولية.
ثم شاء الله أن وجد القذافي ضالته الموريتانية في أحمد الوافي، فانفرد به في خيمة ضربت غير بعيد، ودردش معه لمدة طويلة، لا أذكر هل بلغت يوما وليلة. وعندما رجع الجليسان قال القذافي: أنا وأحمد لم نُكمل المقدمة!
ثم كان من عادتي مع الأستاذ، كلما ودّع بعضنا بعضا، أن يقول له إننا لم نُكمل المقدمة، أو لم نبدأها بعد. والحقيقة اليوم، دون مبالغة أو تنكيت، أن الأستاذ رحل قبل أن نبدأ المقدمة !