الشاعر والروائي احمدو ولد عبد القادر : نهر إبداع متدفق (ح 1)
نواكشوط 11 يونيو 2020 ( الهدهد . م .ص))
بعد الدعاء لشاعرنا الفذ أحمد ولد عبد القادر بتمام الشفاء والعودة إلى أحبائه من متذوقي الأدب، ومن كل الموريتانيين الذين سكنت محبته قلوبهم جميعا، سأتقدم بمجموعة من الانطباعات التأطيرية الأولية حول تجربة هذا الرائد الإبداعية ، بإيجاز شديد:
أولا: يعتبر أحمد ولد عبد القادر رائدا لأجيال الشعر والرواية الموريتانية لسبب موضوعي جلي وهو أنه خاض تجربة التحديث بكل متطلباتها بقوة وكثافة قبل الجميع، رغم ظهور تجارب حداثية موازية له، لكنها لم تكن بزخم تجربة أحمد وكثافتها، واستمرارها. فتجربة أحمد كانت نهرا متدفقا لايتحكم هو نفسه فيه، بل يتسور الحواجر والسدود دون استئذان.
ثانيا: تمحض الشاعر، وهذا لقبه موريتانيا، للأدب، شعرا وسردا، ولم يصرفه عنه صارف، لأن الإبداع كان يسكنه، ويعتمل داخله ويحتدم باستمرار وعفوية.
ثالثا: كانت تجربته رائدة دائما لكل الأجيال التي عاصرته عمريا وتلك التي لم تعاصره، فجاءت لاحقة له، لقد حافظ دائما على مقدمة القافلة الأدبية لأنه يتصف بالتجدد داخليا، وهذا التجدد الإبداعي أمر ذاتي كتدفق النبع من الأعماق، وسنأخذ بعض أمثلته في المحطات الأدبية التي مثلت تجربته الى حد الآن في ريادة الإبداع.
محطات إبداعية في تجربة أحمد ولد عبد القادر
سأتناول بإيجاز وجهين من وجوه التجربة الإبداعية لهذا الأديب المؤسس للحداثة الشعرية والسردية، والبداية ستكون بالشعر لألحقه بالتجربة الإبداعية ااسردية.
أولا: في التجربة الشعرية لدى الشاعر أحمدو،
أرى أن هذه المجرى الإبداعي قاد الشاعر لقطع ست محطات حتى الآن حفظه الله حتى يكملها.
المحطة الأولى، محطة تمثل التجربة الشعرية الاكلاسيكية بقوة، وقد اتصفت بالغنائية، ونشوتها وتدفقها مع الاحتفاظ بشكل القصيدة الاكلاسية وبنيتها الموضوعية، و ملاحظة التحفز للخروج على المعاني الدارجة، وفي ذروة هذه المرحلة قصيدته للشيخ محمد محمود ولد الامجاد، وهو بعد شاب في العشرين من عمره وهي القصيدة الميمية. والتي ألحقها بنصوص من بينها همزيته التي رسم فيها صورة إشراق مجنح، حيث يقول في بيت قصيدها:
ومن نظر الوجود بعين صدق
بهي لايرى إلا بهاء.
وهو نفس عرفاني مشرق يذكر بوجدانيات جلال الدين الرومي وابن عربي، وتلك القمم.
المحطة الثانية: محطة تأسيس الحداثة الأدبية، والتخلي عن البنية الاكلاسيكية لمواضيع القصيدة، وتبني البنية الحديثة، واقتناص المعاني الجديدة واختراق أغشية الدلالة المتداولة، والتسامي عليها تساميا ناعما، يحتفظ بالمتانة اللغوية والصورة الشعرية الراسخة، والصرامة الخليلية مع إنارة الصورة الشعرية من زواياها التي كانت معتمة، ابتداعا للتعبير عن النفس الحداثي الناصع الأخاذ.
وأعتقد أن أحمد عبد القادر استطاع أن أن يقدم النموذج الحداثي المقنع لجميع الأذواق الموريتانية الأدبية في هذه المحطة نتيجة مصالحته بين الوطاء الأصيل للقصيدة ومطلب استيعاب الشعر لروح الحداثة. فكان شعره مستساغا عند أصحاب المحافظة الاكلاسيكية، وعند المطلعين المفتونين بالشعر العربي الحديث مع جبران خليل جبران، وجيله. وقد بدأ افتتان الذائقة الأدبية الشعرية الموريتانية بشعر أحمد ولد عبد القادر في هذه الحقبة. وكانت نماذج هذه الفترة متعددة، وهي أشبه بالحديقة الغناء ذات الأشجار والأزهار المنوعة، سواء من ناحية مواضيعها أو أساليبها أو أشكالها التعبيرية. وقد طبعها نفس الخروج عن المألوف والاستقلالية الشعرية عن شركاء التجربة الإبداعية، والتصدر في ريادة الحداثة الشعرية الموريتانية التي تتجاوز الهم المحلي الى الهم الوطني والقومي، والرؤية الشاملة والجسارة في التعبير عنها:
فرحة العيد أيقظت ذكرياتي
من صميمي وحركت خطراتي..
والتعبير عن الهم القومي العربي:
في الجماهير تكمن المعجزات ومن الظلم تولد الحريات.
وكانت هذه الرؤية الكلية التي نظمت تصورات أحمد لمتتالية العدالة والظلم والأمل، هي مفتاح تصوراته ورؤاه الشعرية اللاحقة، سواء كانت أخذا بالقوة لتلك الحقوق:
حكم العنف أيها الإنسان
إنما السلم خدعة وهوان..
الئ قوله:
لايرد الحقوق إلانجيع
يتلالا كأنه الأرجواني..
ولا تخبو نشوة الحرية والعزة لدى الشاعر إلا لتتجدد شعلتها في المحطة التالية متألقة أكثر معمقة أكثر، صادقة أكثر.
وحتى لا أطيل أسمحوا لي أن أن أتوقف هنا، لأستأنف حديثي لاحقا عن هذا النهر الإبداعي الجاري، أدام الله جريانه في سهول أحبها وعبر بإبداعه عن ذلك الحب تعبير الماء عن حب الأرض بترويتها، كما تعبر البلاد عن حبها لمبدعها تعبير الأرض عن حب الماء باهتزازها وحياتها النضرة.
تحية.
بقلم : د. محمدو أحظان