القَبيلة والدولة المدنية، مريم اصوينع

 

 

يرى المؤرخ ابن خلدون أن القبيلة وسيلة للتماسك الاجتماعي وبناء السلطة، لكنها غير كافية للحفاظ على الدولة الطويلة الأمد، لان الروابط القبلية تمنح السياسيين قاعدة نفوذ قوية، و في نفس الوقت قد تعرقل الديمقراطية والمساواة إذا استغلت لمصالح ضيقة. و وفقا لتحليل المفكر أنتوني غيدنز، الذي يرى أن الروابط الاجتماعية يمكن أن تكون وسيلة للتنظيم السياسي ولكنها قد تؤدي إلى التحيز الاجتماعي. ويري أيضا المفكر ماكس ويبر فيشير إلى أن السلطة التقليدية مثل السلطة القبلية تعتمد على الإرث والعادات وليس على القانون، مما يحد من الفعالية السياسية الحديثة.
ربما يتساءل البعض ما الذي جعلني أبدأ المقال بافكار مفكرين في علم الاجتماع، لأن نظرياتهم تُعد نتيجة دراسات معمقة وتجارب طويلة في فهم سلوك المجتمعات وتحولاتها، وليس مجرد رأي شخصي.

صراع الولاء بين الانتماء الأهلي والمواطنة

إذا رجعنا إلى الوراء في التاريخ الموريتاني نرى أن القبيلة حجر الزاوية في النسيج الاجتماعي حيث شكلت هويّة الأفراد وروابطهم، وتماسكهم و تنظيم العلاقات، حل النزاعات داخل الجماعة و نقل العادات… وهو ما ركز عليه ابن خلدون فتصبح القبيلة هنا أداة اجتماعية. ولكن مع مرور الزمن لم تقتصر هذه الروابط على الجانب الاجتماعي فحسب، بل تحولت تدريجيا لتؤثر على صناعة القرار، وتوجيه السياسات العامة. و أظن أن هذه الظاهرة ليست مجرد انعكاس لتراث قديم، بل هي مؤشر على تعقيدات العلاقة بين الثقافة التقليدية والدولة المدنية، إذ يصبح من الصعب على المجتمع تحقيق العدالة والشفافية في ظل ضغط قوى ولاءات ضيقة.

فالفرد الموريتاني المرتبط بشكل قوي بقبيلة يجد نفسه أحيانا اقرب للولاء الاهلي منه للولاء الوطني، وحين يدخل المجال الإداري أو السياسي تتحول الروابط الي خدمة جماعته اولا عبر مصالحها وامتيازاتها، وتتراجع قيم الاستحقاق وتبرز منطق الوساطة والمحسوبية والمحاباة ويختفي منطق الدولة وقوانينها، فالدولة تريد مواطنَة والقبيلة تصنع تابعًا. والانتقال بينهما عملية بطيئة ومعقدة بالتالي تصبح القبيلة أداة سياسية.

وقد تضاعفت المشكلة كثيرا في فترات مضت مع ما يعرف بالتعيينات الجهوية والقبلية، حيث أصبحت الوظائف تُواجه بمطالب التمثيل، وكأن مؤسسات الدولة حصص موزعة بين المجموعات، لا مسؤوليات وطنية تُسند بالاستحقاق.

في هذا السياق جاء التعميم الحكومي الأخير يحظر على موظفي الدولة من حضور الاجتماعات القبلية، كخطوة غير مسبوقة و إدراكا رسميا لتنظيم حدود هذا التداخل، دون أن يعني ذلك التقليل من قيمة القبيلة اجتماعيا، لأنه قد يضعف حيادية المؤسسات ويشوش مسار اتخاذ القرار ويدخل الدولة في دائرة الولاء المزدوج.
فالحداثة لا تعني محاربة التقاليد الاجتماعية، بل إدارتها بذكاء دون أن تتحول إلى قوة ضاغطة في مسار القرار العمومي، وبناء دولة عادلة تحرر المواطن من ضغوط الانتماءات الصغيرة ويتوجه بولائه إلى وطن واحد ومؤسسات تعتمد المهنية والاستحقاق لا العصبية والولاء الأهلي.

مقالات ذات صلة