كتب ابراهيم سيداتي : البيدون يتحول الى رمز لظاهرة العطش

البِيدون…
لم يكن يخطر ببال أحد أن يتحوّل ذلك الوعاء المعدني الصغير، المعروف يومًا باسم “الجِركان”، من أداة لحمل البنزين إلى رمز للعطش، ونداء للكرامة.
في مطلع الستينيات، دخل “الجِركان” حياتنا مع أول سيارة “لاندروفر” وطأت المدينة، مخصصة لطاقم “اتريبانو” — التسمية الإيطالية للفريق الطبي المتنقّل. كان استخدامه بسيطًا وواضحًا: التزوّد بالوقود لتفادي التوقف في مناطق نائية. وبعدها جاءت “مدرك” و”لاندروفر ميمون” تنقل الركاب والبضائع بين تمبدغة وجكني، حاملة كل منهما معها الجِركان كجزء من معداتها.

ظلّ الجِركان محصورًا في عالم السيارات حتى جاء الجفاف. في سنة “لَحْمَيرَه”، تدفقت المساعدات الغذائية الأمريكية، محمّلة بـ”اللحميرة” و”الدهن الكندي”، المعبأ في عبوات معدنية محلية تُعرف بـأسطل لحديد، التي لم تكن صالحة إلا لحفظ المادة أو لبعض استخدامات الصناعة التقليدية.

لكن التحوّل الحقيقي جاء في صيف 1983. كان صيفًا قاسيًا، احترقت فيه الأرض عطشًا، ويبس الضرع، وجفّت العيون، واشتدّ القيظ حتى كأن السماء قد هجرت البلاد. نزح الناس من الريف نحو المدن، فتقاطرت المخيمات على أطراف جكني — خيام هشّة من “باتلة” أو “بنية”، لا تردّ حرًا ولا تحمي من جوع. لم يحمل الوافدون سوى بِيدونٍ أصفر، وبعض دقيق قُدّم في إطار المعونات الغذائية. كانت الأمهات يُعددن منه كسرةً يابسة تُطفئ جوع الصغار.

وكان أهل المدينة، في خفّة دمهم المعتادة، يقولون: “جاوكم، جاوكم!”
وإذا سألت: “من جاء؟” قالوا: “الكسرة والبيدون!”

هكذا تسلّل البِيدون إلى تفاصيل الحياة. لم يعد مجرد وعاء للوقود، بل صار خزان الماء، ومبرّده، ومخزنًا للنجاة. ومع الوقت، أصبح جزءًا من المشهد اليومي: يُملأ صباحًا، ويُبرّد في الظل، ويتحوّل ليلاً إلى “مطبل” تتجمّع حوله الفتيات، يردّدن أهازيج لسوار والأغاني المديحية، ويرقصن في هدأة القرى، حيث الفرح شحيح لكنّه لا ينقرض.

وسرعان ما غزا البِيدون كل بيت، وكل قرية، وكل مدينة. تجاوز وظيفته المادية ليصبح رمزًا للسقاية، بل وسيلة للاحتجاج — يُرفع أحيانًا كما تُرفع الرايات، صارخًا بلا صوت:
“هل من شربة ماء؟”

واليوم، وبعد مرور عقود، ورغم تعدد الموارد وتطور الوسائل وتحسّن الظروف، يعود البِيدون من جديد إلى الواجهة. نراه في شوارع العاصمة، وفي مداخل المدن الكبرى، لا كأداة منزلية، بل كرمز لأزمة مستمرة، وصدى عطشٍ لم ينقطع.

فهل يُعقل أن تظل هذه الأداة البسيطة — التي بدأت بالجِركان وانتهت بالبِيدون — وسيلتنا الأولى والأخيرة للسقاية؟
هل يُعقل أن يبقى البِيدون شاهدًا على الحاجة، ومرآة لعجزٍ غير مفهوم؟

 

مقالات ذات صلة