
من آبير إلى تجكجة: مساهمة جوهرية في توثيق تاريخ العلويين الشناقطة
يقال قديماً أن التاريخ هو أعظم معلم للبشرية ، وذلك لكونه يشمل الحكم و العبر و توجد فيه التجارب و السير.و تمشياً مع هذه الحقيقة فقد أنتهي إبن خلدون في دراسته الإستقرائية للواقع العربي و المغاربي إلى نتيجة مفادها أن القبيلة هي المحرك للتاريخ البشري ، و قد سلك هذا المنحي العديد من المؤرخين و الباحثين الإنتروبولوجيين الذين ينظرون إلي القبيلة بإعتبارها ليست مجرد تجمع بشري بل هي نسيج معقد من الروابط الإجتماعية و الثقافية التي تشكل شخصية و هوية الأفراد المنتسبين لها و الركيزة الأساسية في المحافظة علي تراثهم و عاداتهم و تقاليدهم المشتركة.
أما بخصوص بلاد شنقيط التي لم تعرف قيام سلطة مركزية قبل مجيئ الإستعمار إليها في بداية القرن العشرين ، فقد كان ينظر إلى القبيلة بإعتبارها الكيان السياسي الوحيد القادر علي تحقيق طموحات و تطلعات جميع أفرادها في التكافل و النصرة و الذود عن الحمي و الدفاع عن الكرامة و الشرف.
و دون الخوض في طبيعة المنهج الإنتربولوجي و الخصائص التي تميزه في الترابط و التكامل بين الماضي و الحاضر للوصول إلي معرفة حركية المجتمعات و تطورها عبر الزمن ، فإن صدور كتاب من آبير إلى تجكجة لمؤلفه المصطفي ولد عبد الله ولد سيد أم هو يندرج ضمن هذه المقاربة المنهجية .
فلقد ركز المؤلف ضمن هذا الكتاب الذي يتألف من 196 صفحة من الحجم المتوسط علي تتبع مسار العلويين الشناقطة منذ مقدم أجدادهم الأوائل من
الجزيرة العربية مروراً بتأسيس آبير وشنقيط في مرحلة ثانية و إنتهاء بتأسيس مدينة تجكجة التي بدأ التشييد فيها بصفة فعلية سنة 1667م من خلال غرس واحات النخيل علي نطاق واسع علي طول الوادي.
و قد تعرض المؤلف بإسهاب إلي كل هذه المحطات مبرزاً خصائصها التاريخية و تنظيماتها الإجتماعية و الأدوار العلمية و الثقافية التي لعبتها . و قد تم التركيز أكثر من طرف الباحث على مدينة تجكجة لما لعبته من إشعاع ثقافي و علمي كبير على مستوي كامل القطر الشنقيطي و لتأثيراتها السياسة الواضحة على المحيط سواءً في مقارعة الإستعمار الفرنسي أو في المشاركة الفاعلة في عملية التحرر الوطني التي أنتهت في نهاية المطاف إلى كسب الرهان و تحقيق الإستقلال الوطني.
و بالرغم من أن المؤلف ليس متخصصاً من حيث التكوين في مجال الدراسات التاريخية كما أشار إلى ذلك في مقدمة الكتاب إلا أنه قام بجدارة بتطبيق المنهج التحليلي التاريخيّ المتعارف عليه في البحث العلمي من خلال إستقراء الأحداث و مقارنتها و ربط بعضها البعض و ذلك بغية الوصول للحقيقة التاريخية التي تمكن من الفهم الشامل لأحداث الماضي و إستخلاص التجارب في بناء الحاضر و التخطيط المحكم في بناء المستقبل .
و الحقيقة أن هذا العمل العلمي الذي قدمه الأخ المصطفي سيد أم اليوم رغم إكراهات الحياة اليومية و التحديات التي تواجه البحث العلمي في التعاطي مع مثل هذه المواضيع ذات المصادر النادرة يعتبر تجربة را ئدة في مجال البحث الأنتروبولوجي و المونوغرافيا التاريخية و مساهمة جوهرية في تدوين تاريخ العلويين في بلاد شنقيط .و قد مكن بالفعل من حصيلة يمكن البناء عليها في إعادة الإعتبار لتراث مدينتهم المحروسة التي فقدت الكثير من خصوصياتها. و هو ما يمثل في الوقت ذاته مبادرة طيبة تستحق منا جميعاً كامل التقدير و التنويه.
تعليق د.محمد الراظي بن صدفن على كتاب المصطفي ولد عبد الله ولد سيد أم.
