من دفتر الذكريات : رحلة استكشاف ..كان لها ما بعدها…!/ بقلم : الصحفية امنة بنت يب
نواكشوط 16يونيو 2021( الهدهد .م .ص)
في يوم صيفي من عام 2010 زارتني إحدى زميلاتي في العمل بعد يوم شاق ومشحون بضغط هذا الاخير وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث والاخذ من هنا وهناك والخوض في المتفرقات( الفطانكيات) إذ عرضت علي الذهاب لقضاء بعض الوقت معا خارج البيت كعادتنا للتخفيف من أعباء مهنة المتاعب واستنشاق الهواء في الفضاءات المفتوحة وافقت على الفور لأن ( المِكْمِيًّه ) بلغة أهل الوَدَعِ لا تطيق البقاء بين اربعة جدران لأكثر من بضع دقائق في الجو البارد أحرى ان تكون درجات الحرارة مرتفعة .
بعد الموافقة على العرض المغري في ذلك الظرف الاستثنائي أقلتنا صديقتي في سيارتها الشخصية التي كانت حينها من نوع أوبل الالمانية الصنع و انطلقنا بحثا عن مكان للنزهة فجأة صادفنا طريقا معبدا حديث النشأة فقالت لي زميلتي وهي تأخذ المنعرج سننطلق مع هذا الطريق الجديد لنعرف إلى أين ينتهي ومضينا أقل من مسافة كيلومترين على ما أظن عندها انتهى الطريق المعبد وبدأ طريق ممهد على نفس المسار واصلنا رحلتنا الاستكشافية على ذلك الطريق الموحش كما كنا نشعر في ذلك الوقت اذ لا حركة للسيارات ولا للمارة لا شيئ في المكان ولا أثر يوحي بوجود أي كائن هناك بإختصار يمكن أن نقول إنه كوكب برزخي ، أثناء الحيرة واستغراب المكان لمحت صديقتي كثيب رمل على الجانب الأيمن من الطريق فقالت انظري لقد وجدنا مكانا مناسبا لقضاء بعض الوقت واحتساء كؤوس من الشاي قبل الغروب وأشارت إلى المكان وهي تسير نحوه بالسيارة فاجبتها هل انت مجنونة ؟ هذا مكان قفر وقد يكون وكرا للمجرمين لا نستطيع المكوث هنا بل لفي لنعود ادراجنا و كنت فعلا أتخيل ان الجلوس على ذلك الكثيب الرملي الذي مازالت صورته عالقة في ذهني بمثابة الانتحار لكن صاحبتي أصرت وصممت على أن تقيم الشاي بيدها على تلك الربوة والمقود بيدها ولم يكن لدي سوى الاستسلام للامر الواقع مرت ساعة كنا حينها نحتسي كؤوس الشاي ( الذهبي ) ونستأنس بصريره بين الكؤوس وفوهة الابريق الأزرق وبيما نحن كذلك شاهدنا على مسافة بعيدة منا شبانا يلعبون كرة القدم فتيقنا أنهم عصابات إجرامية تحاول ان تظهر عكس ما تضمر فقمنا بلملمة اغرضنا بعجالة للمغادرة والعيون شوارد ، أثناء ذلك المعمعان رصدت شخصا في الجهة الغربية منا يجلس امام كوخ وكانت الشمس قد غابت لتوها ، الشخص يبدو أنه يتهيأ لصلاة المغرب لأنه يتوضأ حيث امعنت النظر جيدا وتأكدت من ذلك عندها نبهت صديقتي على تفاصيل مارأيت وقلت لها لنمضي إلى هذا الشخص اذا كان طبيعيا نصلي في الباحة التي يطل عليها الكوخ لأن الوقت قد حان ونتلمس منه أخبار هذه المنطقة وإذا لا حظنا عكس ذلك لن ننزل من السيارة ونغادر ، توجهنا نحو الرجل نترصد حركاته عن بعد وبحذر تام فإذا به رجل خمسيني يبدو من ملامحه انه مسالم اقتربنا منه قليلا وطرحنا عليه بعض الأسئلة و أجاب عليها بكل عفوية ومن دون تحفظ فاخبرنا بأنه يحرس حظيرة للدواجن ليلا و يغادر في الصباح ليأتي آخرون يقومون برعاية الدواجن بعد أن تحققنا من صدق مايقول بحكم حسنا الصحفي نزلنا من السيارة و قبل أن نطلب منه أي شيئ جاءنا بحصير لنصلي عليه وهذا دأب كل موريتاني عندما يحل بباب بيته ضيف الأمر طبيعي جدا لمن يعرف هذه البلاد وأهلها.
بعد ان صلينا المغرب إذا بلوحة قريبة منا مكتوب عليها (هنا مشروع بيع لبن الإبل) سألناه هل هذا المشروع يعمل الآن ؟
رد علينا نعم وصاحبه سيكون حالا في الطريق سألناه أيضا هل لديه زبناء في هذا المكان الخالي من السكان ؟ فأجاب طبعا ياتيه الزبناء من كل مقاطعات العاصمة وفعلا ماهي الا دقائق حتى وصل صاحب المشروع في سيارة من نوع كارينا تحمل براميل صغيرة معبأة باللبن وعمالا يقومون بعملية البيع و كنا اول من اشترى منهم بعد وصولهم المكان ، ولم تمض لحظات حتى بدأ الزبناء يتوافدون في تلك الليلة المقمرة والجو الهادئ الذي جعلنا نشعر بالأمان وكاد يسحرنا بعد خوف وتوجس انتابنا بعض الوقت و في حدود الثامنة مساء غادرنا المكان على أمل العودة واكتشاف المزيد …
في طريق العودة إلى المنازل بعد رحلة الاستكشاف في فصلها الأول كنا نمر بمحاذاة أعمدة الإنارة العمومية حيث لاحظت ان وجه صديقتي وأطرافها تبدو لي وكأنها خرجت للتو من مصنع للجبس او عبثت بوجهها صاحبة صالون للتجميل ليست لديها أية خبرة بعالم موضة المرأة و لا تجيد فن التجميل ولا تتقن حتى وضع المساحيق بشكل متناغم ،تفاجأت عندما رأيت ذلك المشهد المرعب وصحت فلانة !!! في تعجب وذهول لأسألها ما الخطب إلتفتت إلي بمجرد ذكر إسمها قبل أن أتمكن من طرح سؤالي وعندما قابلت وجهي انفجرتْ ضحكا من اعماقها وانحرفت يمينا عن الطريق وأوقفت السيارة وانكبت على المقود وظلت تضحك وتقهقه دون توقف وكلما نظرتْ الي بطرفها بالغت في الضحك وانهمكت من جديد حتى تخيلت أنها لم تسلم من المس وقمت أهمس بالتعوذ وأقول في نفسي لا شك ان ذلك المكان الموحش قلعة من قلاع ملوك وعظماء الماردين وما هذه الا ضريبة دخول حوزتهم الترابية من دون تأشرة ( وطول لكراع أملي فم )، ولم يرد في مخيلتي إطلاقا أنها تضحك من طلاء وجهي الا بعد أن أفرغت شحنات من الضحك وتنفست الصعداء وقالت لي وهي تضحك الا ترين وجهك ؟ فاجبتها وانا التقط الأنفاس أولا ترين انت وجهك (ال احرام) ؟ من حينها عرفت أنها كانت تضحك من وجهي دون أن تعلم هي نفسها أن الوجهين مطليان بمسحوق واحد وضحكنا بعد أن تيقنا أن السبب يعود إلى الحصيرة التي أقمنا عليها الصلاة حيث كانت فوق أرضية رملية وعند السجود تجذب المنافذ الموجودة بين خيوط النسيج حبيبات او ذرات الرمل الدقيقة فتلتصق بوجوهنا وأطرافنا دون أن نشعر.
اما كيفية التخلص من تلك الآثار اللعينة فلن أبوح بها عبر هذا الفضاء لأنها قصة أخرى إذا ضربنا طولها في عرضها سنلجأ لا محالة للخوازمي و فيثاغورس وغيرهم من علماء الرياضيات.
عموما بعد يومين على مرور أحداث الفصل الأول من رحلة الاستكشاف هذه عدنا الى كوخ الحارس على تمام الساعة السادسة مساء فوجدنا فيه مالك المشروع
و بعض اعوانه تبادلنا التحايا نحن في السيارة ظنوا اننا نريد الدجاج فقلنا لهم بل نريد مكانا آمنا نقضي فيه بعض الوقت بعيدا عن سخونة الجو في المدينة ، وكان مالك المدجنة رجلا طيبا مرحا استقبلنا بحفاوة و قال هذا مكانكما اقيما فيه ماشئتما من الوقت وانتما في مأمن تفضلا وبكل سرور وأمر عاملا بأن يوفر لنا فراشا مستقلا عن الجماعة وهو ماتم بالفعل وبينما نحن نستعد للجلوس جاء الحارس في التوقيت المحدد لبداية دوامه الليلي والذي تزامن مع قدومنا إلى المكان ،استقبلنا هو الآخر بالترحيب وأخذ الفرن والفحم وبدأ يوقد النار ليعد لنا الشاي ( حبيبتي امدوخة دهرا ) تابعت عن كثب مجريات العملية برمتها وكانت جلسة شاي محترمة تبادلنا خلالها الأحاديث و أتاحت لنا فرصة لمعرفة الاشياء على حقيقتها في المدجنة ومحيطها واسماء الاشخاص ( مالك المدجنة، وحارسها ،والعمال ) كل التفاصيل أصبحت معروفة بجزئياتها و لم يعد يخفى علينا أي شيئ وتبين لنا ان هؤلاء الاشخاص من معادن طيبة إذ لا حظنا انهم يتبادلون الاحترام فيما بينهم رغم التفاوت في الأعمار ويتحلون كلهم بأخلاق رفيعة كما عاملونا معاملة طيبة وقبيل الغروب وصل صاحب مشروع بيع لبن النوق ….
لحظات ورفع على مسامعنا آذان صلاة المغرب وحضرت في أذهاننا قصة الحصيرة والرمل الجبسي لكننا هذه المرة حرصنا على معرفة البؤرة المحظورة التي حددنا موقعها منذ الوهلة الاولى مع وصولنا في ذلك المساء لنتجنب الوقوع في ورطتها مرة أخرى فمن لدغته الحية يَخشى الحبل كما يقول المثل.
اشترينا اللبن وبعد الارتواء غادرنا.
مر اسبوع تقريبا ورجعنا وكنا كلما عدنا تتوطد علاقتنا بالمكان الذي ألفناه وأصبح وجهتنا المفضلة في أوقات الفراغ فكل مفردات الحياة هنا بسيطة – جو معتدل بلا تكييف – هادئ بلا ضوضاء – ماء عادي بلا تبريد الا ما كان بطرق تقليدية – عمال يكدحون من أجل الكسب الحلال يوزعون المهام بينهم بتراض مشكلين بذلك فريق عمل متكامل لا شحناء ولا بغضاء بينهم.
هكذا تحولت اكراهات الزمان التي فرضت علينا الخروج قهرا الى عشق للمكان تسلل إلينا خلسة واصبحنا نتردد عليه من حين لآخر سرنا على هذا المنوال لمدة شهرين تقريبا و المنطقة على حالها لم تراوح مكانها فهي كما عرفناها كلها سكون كعتمة الليل خالية الا من نبض أصحاب مشروعي بيع الدواجن والألبان ، ولاجديد فيها ينبئ بصيرورة الحياة غير تمدد ذلك الشريط الاسفلتي الذي كنا نفرض على أنفسنا السير عليه في كل خرجة لنعرف إلى أين وصل .
تعززت الألفة بيننا و بين ما اعتبرناهم إخوة وحماة لظهورنا وكانوا لنا كذلك ، وذات مساء بعد ان رفع الحرج بيننا ولم نعد غرباء عرضنا على الحارس ( محمد ) أن نشتري ديكا من المدجنة ويقوم بشوائه رحب بالعرض ونجح في إعداد الوجبة ومن هنا وٌلدت الفكرة سر هذه المعادلة والشفرة التي بدأت طلاسمها تتفكك.
طرحنا سؤالا بيننا لماذا لا يقوم( شامخ ) صاحب المدجنة بإطلاق مشروع لشواء الدجاج بموازاة مشروع المدجنة ؟ ولم يكن شامخ حينها موجودا وعند حضوره قدمنا له المقترح مع تبيان مزايا المشروع و فوائده الاقتصادية وافق بشرط أن يشاركه ( بيروك) صاحب مشروع بيع لبن النوق في المشروع الجديد لم يتردد هذا الأخير في الموافقة لكنهما ابديا تخوفهما من الخسارة لقلة الزبناء قمنا بتشجيعهما على أننا سنكون من زبنائهم وعلاوة على ذلك سنعد لهم تقريرا تلفزيونيا يروج لهم المشروع الوليد و في الصباح قدمنا المقترح في اجتماع التحرير على أنها ظاهرة جديدة على شارع فتي تستقطب سكان العاصمة ومتنفس يحل محل المنتزهات والحدائق العمومية وافق التحرير على إعداد عنصر إخباري من العناصر الميتة كما تسمى حول الموضوع وفي المساء أعددنا عدتنا ونسقنا مع أصحاب المشروع على أن يقوموا بتجهيز المعدات وتهيئة بعض الدجاج للذبح وجلب أفراد من عوائلهم لتصوير مراحل هذه العملية المفتعلة وأعدت الزميلة والصحفية المقتدرة التي شوقتكم كثيرا في ذكر إسمها رفيقتي مغلاها منت الليلي تقريرا اكثر من رائع أحاط بكل الجوانب الاقتصادية والسياحية للمشروع مع ضبط محكم لفنيات التقرير التلفزيوني المتقن كما تفنن المصور المبدع المختار ولد العالم ومساعده سيداتي ولدحمادي في أخذ الصورة من زواياها وابعادها وكان تقريرا متميزا في نشرة الأخبار لتلك الليلة نصا وصورة.
وبعد بثه مباشرة انهالت علينا المكالمات من الخارج والداخل الكل يسأل عن الموقع الجغرافي لهذا المكان الروعة كما يصفون والذي هو طريق عزيز بتسمية العامية قبل تسميته الرسمية بشارع المقاومة وفي اليوم الموالي توجهنا الى فسحتنا التي كانت بالأمس لاحجر بها ولا بشر لنتفاجأ بطوابير السيارات المختلفة وتجمعات البشر من كل الاجناس والفئات العمرية والجلبة هنا وهناك ووفود تجول وتصول ودخان الشواء يتصاعد في السماء حتى اننا لم نجد موقفا لسيارتنا “عملناها بأيدينا” عبارة ترددت على لساني كعتاب لزميلتي مغلاها التي أسلمها اليراع لتكمل البقية ….!!