انصاف وكلمة حق…/ محمد الشيخ ولد سيدي محمد

 

15 نوفمبر، 2013 • ‏نواكشوط‏ •

________
في ذلك اليوم من عام 2004، كنت معتكفا وحيدا في بيتي بكارفور.. أخوض صراع متابعة مع شاشتي التلفزيون والحاسوب..
كان تلميذي وقتها الشاعر صلاح الدين غائبا، عن دروسه، و هو الذي جاءني قبل أشهر ليدرس المعلوماتية وخاصة برامج الإخراج الصحفي…
وفي ذالك قصة طريفة هي أن صلاح – وهو اليوم أستاذي في المعلوماتية وقرصنة البرامج والحسابات، اتصل بوالده الأديب الكبير أحمد ولد بياه وهو في الخارج وقتها.. وقال له أنا أتعلم المعلوماتية على المختار السالم وأسكن معه ويعاملني كشقيقه الأصغر… فرد عليه قائلا “حسنا ولكن أريدك أن تتعلم من ثعلبيته..”.. كانت تلك العبارة تثير ضحك البعض خاصة الكتاب الذين يعرفون أحمد ولد بياه..
أعود للحكاية.. نفس المساء دخل علي محمد الشيخ ولد سيدي محمد يتبعه سائقه يحمل خبزا وشواء و بادر إلى عدة الشاي .
جلس محمد الشيخ، وألقى نظرة على المكان، ثم التفت إلي : نأكل أم نتحدث؟.. قلت: نأكل أولا، ففي هذا الزمن البائس لا يفرط أحد في لقمة صادفته.
نظر إلي ثم قال “أنا جئتك الآن من حيث كنا نجتمع مع الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، وقد وافق على خطة تطوير قطب النشر بالوكالة الموريتانية للأنباء.. وعينت لجنة لهذا الغرض قررت استقدام خبير إعلامي يضع الخطة العامة ويشرف عليها ويدرب الطاقم على إصدار الجريدة بالحجم الدولي و مجلتها الملونة.. ثم بحثنا تكاليف الخبير وأجرينا اتصالات وعرفنا التكاليف .. سوف نحجز له الفندق وندفع له عشرات الملايين..”.
و أردف قائلا: ” قلت للجنة إن لدينا “مقطوع انعاله من أهل أتويشات” أفضل من الخبير التونسي.. وسيقوم لنا بالمهمة وبأقل التكاليف. الآن أريد رأيك… بكم ستقوم بهذه المهمة… سأدفع لك خمسة ملايين أو أوظفك.. أيهما تختار؟”..
ثم قال “هم يريدون الانطلاقة خلال 6 أشهر”….
قلت له حسنا “كما تعلم أنا جاهل، ولكن دعنا أولا نقلص المدة إلى شهر واحد.. الانطلاقة يجب أن تكون بعد شهر واحد… ثانيا.. العدد النموذجي الذي سيعرض على الرئيس سيكون جاهزا خلال أسبوع.. صحيفة من الحجم الدولي ملونة… ثالثا.. سأعد لك جانبي من الدراسة الفنية والمقترحات… رابعا.. لست في حاجة لتدريب الطاقم الفني… يوجد “أطفال” هنا عباقرة تستغلهم كل المؤسسات مقابل ألفي أوقية للماكيت.. إنهم يعانون من مصاصي الدماء الصحفية.. لا يحتاجون إلى أي تدريب.. هم أفضل من خريجي كليات الإعلام… لأنهم تخرجوا من كلية اسمها العصامية… خامسا.. سندخل هذا العمل فورا، والمقابل هو توظيفي”…
جاءني صلاح الدين تلك الليلة، وكنت أصمم صفحات جريدة من الحجم الدولي ملونة على قياس الأهرام..
نظر إلى الشاشة.. وقال “هذا شيء جديد”.. حكيت له القصة.. وكان التحدي الوحيد الذي طرحته على صلاح الدين هو تركيب الصفحات بحيث تبدو وكأنها سحبت بمقياس الحجم الدولي (A3).
الحادية عشر صباح الغد، ودون أن ننام، كان صلاح قد أنجز المهمة على أحسن وجه..
كان بالفعل عددا نموذجيا يضاهي أفضل الصحف العالمية شكلا.. وأتمنى اليوم ان يكون ذلك العدد النموذجي قد حفظ في الإرشيف ولم يتعرض للضياع..
نمنا ساعتين.. لتوقظنا تلك الجارة الكريمة على وجبة الغداء…
اتصلت بمحمد الشيخ، وقلت له تعال.. هذا الأمر مستحيل.. الساحبة الملونة الصغيرة لا يمكنها قهر المستحيلات.. المهمة فاشلة..”.
شعرت بالتوتر الشديد في صوته.. وهو يقول لي أنا في طريقي إليك..
بعد وصوله …فضلت أن أبدأ بالدراسة الفنية…
كان الرجل متوترا… وهو ينصت إلي .. فالمهم ليس تفاصيل الدراسة ومعطياتها الفنية والمقترحات و… وإنما الشكل النموجذي لعدد من الصحفية يقنع الرئيس بإعطاء التأشيرة الأخيرة لبدء المشروع..
أنهيت عرضي، وقلت لمحمد الشيخ تعال معي..
أدخلته الصالون حيث كان يتربع على الطاولة الكبيرة العدد النموذجي بالحجم الدولي الملون..
أخذ يتفرس الصفحات تصفحا… وكأنه لا يصدق.. و أنا ألتهم سيجارة بعد الأخرى، وأتفرج عليه وهو تحت الصدمة..
وبأعصاب قابلة حنون، قام بطي العدد بحذر شديد.. ووضعه في حقيبته واتصل بالرئاسة طالبا لقاء الرئيس لتأتيه الموافقة فورا…
وهو يخرج فال:”لا تغادر المنزل سأعود إليك فور خروجي من لقاء الرئيس..”.
وعاد إلي بعد ساعتين.. وكان دمه يغلي فرحا.. فقد بهر العدد النموذجي الرئيس ولد الطايع، الذي أمر بشراء مطبعة ملونة خاصة بالشعب، وبدء المشروع فورا..
طبعا لم يتم شراء مطبعة ملونة لأن مافيا “ما” حالت دون ذلك بحجة أن تلك المطبعة ستقضي على المطبعة الوطنية.
بدا محمد الشيخ في غاية السعادة، وتسلم مني قائمة بالكتاب الكبار الذين سيكتبون للجريدة، والعديد من الأوراق الأخرى والمقترحات.
كان الرجل ينظر إلي غير مصدق.. وطال الحديث.. حتى قلت له: أريد منك خدمة… هم يقولون إنك لا تحب “أهل الكبله”.. وضحكنا كثيرا…. وأنا لدي لائحة من الشباب الموهوبين المشردين أريد توظيفهم.. وكلهم من”أهل الكبله”، وليس من بينهم من تربطني به أي علاقة نسب.. كل ما هنالك أنني أشفق على هؤلاء لأنه لا أحد يهتم بهم.. “.
ضحك محمد الشيخ، وقال: هل تعلم شيئا؟.. قلت وما هو؟
قال بالحرف “الكبله عرين الثقافة العربية والدين والمروءة… يكفيها شرفا أن ابن عدود ينتسب إليها، وفي كل أسرة وفي كل قرية ابن عدود.. الكبله الحضن الأمين للغة العرب.. سأوظفهم لك على شرط أن لا يقلوا عن ثلاثين شابا موهوبا.. ألديك اللائحة… حسنا سأوقع توظيفهم غدا صباحا”.
وفي الغد كنت أراقبهم واحدا تلو الآخر كل منهم يقلب ورقة توظيفه وعلامات الفرح تعلو وجهه.. بعضهم كان يأتي ليعانقني شاكرا، والبعض الآخر كان لا يعلم أن لي أي دور في ذلك.
هذا هو محمد الشيخ الذي عرفته وأعرفه… والذي له فضل كبير على مئات المتسكعين الذين أصبحوا موظفين، يعيلون أنفسهم وأسرهم بكرامة، وبعضهم أصبح نجما في سماء الإعلام.
وهو محمد الشيخ الذي أعرفه إذا أدار مؤسسة تحولت إلى خلية نحل لا تهدأ..
هذا هو الداهية، والكاتب الفذ الذي يسيل حبره بذهب الفصحى، والذي إذا كتب يقرأ الجميع.. إن لحروفه لصهيلا… وإن لسانه لرطب دوما بالقرآن الكريم والحديث الشريف عن معرفة ودراية وفهم قد لا يعلم به الكثيرو..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً